الشعانبي... "جبل الأشباح" مغلق فقط على ساكنيه
الشعانبي... "جبل الأشباح" مغلق فقط على ساكنيه
جبل (الشعانبي) الذي يقع في الوسط الغربي التونسي، لم يكتف بالصفة التي يعرفها الجغرافيون منذ مئات السنين والتي تشير اعلى مرتفع تونسي (1544 م فوق مستوى سطح البحر)، فأضيفت الى اسمه صفات مثل (جبل الاشباح)، ومكان أول عملية استهدفت جنودا تونسيين على التراب الوطني منذ عقود، والتي حولته إلى مسرح لعمليات عسكرية كبرى ينفذها الجيش التونسي ضد مسلحين متشددين دينيا يعتقد أنهم يختفون في هذا الجبل.
وفي مدينة (القصرين)، المجاورة للجبل والتي كانت طبيعتها وآثارها إلى وقت قريب تجذب الكثير من السياح، تحولت إلى منطقة أمنية تخضع لإجراءات مشددة للغاية. فعلى اعتاب محمية الشعانبي، المدخل الرسمي لمنطقة الجبل، ترابط قوة عسكرية منذ مدة وتقوم بمنع الزوار وحتى الصحافيين من الدخول الى الجبل، ومبررهم في ذلك هو الحفاظ على سلامتهم، لكن هذا التشدد يكاد ينعدم على المداخل الثلاثة الاخرى (الجزائر والكاف وسليانة / الروحية)، والسبب كما يقول عناصر الجيش الذين رفضوا الادلاء بتصريحات رسمية، هو "صعوبة مراقبة هذه المداخل الثلاث لوجود غابات كثيفة"، لذلك يكتفي الجيش بتمشيط المكان بدوريات من حين لآخر.
نحن نحارب اشباحا
وعلى الرغم من أن وزارتي الداخلي والدفاع اعلنتا منذ (افريل – نيسان) الماضي بدء حملات لـ"ملاحقة جماعات إرهابية تحصنت بجبل الشعانبي"، فإنه ومنذ ذاك التاريخ وحتى يوم الهجوم على الجنود لم تسفر العمليات الأمنية عن اعتقال أي من المسلحين ولا حتى اكتشاف أماكن وجودهم، لا بل ومع تكثيف تلك العمليات قام المسلحون بتنفيذ عمليات مضادة، أكبرها عملية مزدوجة كانت يوم )29 تموز 2013) وقتل فيها ثمانية جنود تم التمثيل بجثثهم، وسرقة كافة معداتهم.
ويقول هشام خميري، وهو جندي اصيب في انفجار لغم استهدف دوريته التي كانت تمر على أحد طرق الجبل في ذلك التاريخإن "الامور كلها كانت عادية مثل كل يوم، حتى صار الانفجار، وبعده لا اتذكر إلا وجودي في المستشفى".
ويضيف خميري الذي نقل للمرابطة في جبل الشعانبي قبل وقت وجيز من إصابته في حديث إلى (IWPR) من المستشفى الذي مازال يرقد فيه للعلاج "نرابط يوميا بالمكان ونتنقل فيه ولا نرى حياة لبشر أو لكائن من يكون، نحن نحارب أشباحا".
لكن الاشباح التي يتحدث عنهم خميري، زادت عملياتها بعد حادثة مقتل الجنود بل أنها بدأت بتحدي القوات الامنية والعسكرية من خلال الاشتباك المباشر معها اكثر من مرة، وأصبحت الألغام تزرع خارج الجبل وحتى في المسالك الرّابطة بين مدينة القصرين وجبل الشعانبي.
شكوك بالرواية الامنية ولوم للاستخبارات
ويقول (محمد)، وهو مزارع يبلغ العقد السادس من العمر تقريبا، ويسكن على بعد كيلومترات قليلة من الجبل إنه شاهد اربعة ملثمين قادمين عبر طريق يربط الجبل بالمدينة، في ليلة 30 (جويلية – تموز)، مضيفا ان "الملثمين طرقوا باب المنزل يبحثون عن الماء".
ويؤكد محمد في حديث الى (IWPR) "تظاهرت بجلب الماء للمسلحين وتسللت الى منزل جار قريب للاتصال بقوات الأمن"، ويضيف متحسرا "لكنهم تأخروا بالوصول".
لكن سيدة ثليجة، وهي مزارعة (50 سنة) تنفي وجود "إرهابيين او أجانب ينزلون من الجبل"، وتتساءل بشك "لما هؤلاء الإرهابيين لا يقتلون سوى أعوان الأمن ولا يلمسون مواطنا أو يقتربون منه".
وتؤكد ثليجة في حديث لـ (IWPR)، "لم نسمع بمواطن شاهد أو التقى شخصا ملثّما فقتله".
ويؤيد أصحاب الفنادق ومحال بيع الفواكه والخضر في مدينة القصرين المتضررين من الأعمال العسكرية هناك، كلام ثليجة، ويلفتون إلى أن "العناصر الأجنبية الوافدة على المدينة الهادئة من أشهر هم فقط أعوان الأمن وممثلي وسائل الإعلام".
ويتساءل اخرون من الاهالي عن فعالية الدور الاستخباري لدى قوات الامن، ويطالب بعض هؤلاء بتجنيدهم ضمن تلك القوات " لإرشاد أعوان الأمن"، كونهم الأدرى بمسالك الجبل".
محللون: الجيش مخترق من المسلحين
يرجح عضو (لجان حماية الثورة بالمدينة) رمزي (طلب عدم الإفصاح عن باقي اسمه لدواع أمنية)، ان تكون "عناصر عسكرية محسوبة على التيار الجهادي وهي من ترشد الجماعات الارهابية عن تحركات الجيش"، وموضحا أن "ذلك يفسر زرع الألغام أثناء عودة سريّة الجيش وعناصر الأمن المستكشفين للجبل".
ولايستبعد الخبير العسكري فيصل الشريف هذا الاحتمال، مؤكدا في حديث الى (IWPR)، ان "فرضية الاختراق يمكن أن تصحّ مع وجود ما يقارب الـ10 آلاف انتداب جديد في المؤسّستين العسكرية والأمنية"، مضيفا "قد يكون وقع التغرير بالعسكريين الشبان من قبل جماعات تكفيرية وهذه الفرضية أيسر من الحديث عن تجنيد قيادات قديمة".
ويعزو الشريف "فشل" المؤسّسة العسكرية طيلة أشهر في القبض على المجموعات الارهابية إلى "ضعف الاستخبارات العسكرية بالإضافة إلى انعدام الخبرة لدى الجيش في مكافحة الإرهاب".
ويبين الخبير ان "لجوء المجموعات الإرهابية المناطق الوعرة ومقدرتها على التنقل فيها، يجعل من مهمة القوات الامنية والعسكرية صعبة".
ويوضح الخبير أن "وعورة جبل الشعانبي الذي تقدر مساحته بـ 100 كم مربّع، ويحوي مغاور وكهوف مرتبطة بالحدود الجزائرية تجعل ملاحقتهم عصية على القوات العسكرية غير المعتادة على المكان وتشكّل الملجأ المفضّل لهذه الجماعات للاحتماء والتمركز خصوصا لتنظيم القاعدة بشمال المغرب العربي المتكون من عدّة جنسيات".
وينبه الخبير الى "مسؤولية الطبقة السياسية بالبلاد التي تجاهلت أصوات التحذير من قبل قوات الأمن لوجود معسكرات التدريب بالجبال منذ (ماي – ايار) 2012".
ويتابع الشريف "هذا بالإضافة إلى تجاهل ظاهرة تكفير الأشخاص وتجييش المساجد واستقطاب شيوخ عرفت بفكرها المتشدّد والسماح لها بالالتقاء بالشباب التونسي بل وتسخير الفضاءات العامة لعقد لقاءاتها الجماهيرية دون مراقبة خطابها."
استقدام قوات خاصة يحرك الامور في الشعانبي
لكن الدفاع لم تستسلم بعد كما يبدو للتشاؤم، فبعد نحو أسبوعين من حادثة قتل الجنود الثمانية واربعة اشهر على بدء العمليات في الشعانبي، قررت الوزارة استقدام فرقة مكافحة الارهاب، التي تمكنت من بناء سمعة طيبة بعد نجاحها في كشف مجموعة مسلحة اطلق عليها اسم مجموعة سليمان في العام 2006، وطلب من الفرقة التعاون والتنسيق الفوري لاعتقال المسلحين، كما بينت مصادر من المنطقة أنّ "الأجهزة الثلاث من شرطة وحرس وجيش وسّعت دائرة الإرشاد من قبل المواطنين وربطتها بمختلف غرف العمليات الموجودة بالولاية أو بالجبل أو بالعاصمة".
وبالفعل تمكنت عناصر من الفرقة من اعتقال احد المسلحين خلال نزوله من الجبل للقاء اهله الذين يسكنون في مكان قريب، ويقول مصدر امني مطلع على التحقيق مع المسلح المعتقل ان "الشاب محمد بن محمود العمري من مواليد سنة 1990، وهوطالب، كان يحمل حقيبة بها 5 قنابل يدوية ومدفع يدوي رشّاش وبحوزته هاتف لأحد الجنود الثمانية المقتولين قام من خلاله بتصوير عمليّة اغتيال الجنود الثمانية".
ويبين المصدر ان "عناصر الامن لجؤوا الى ضربه، مما ادىى الى انهياره بوقت قصير وكشف معلومات مهمة منها "وجود نحو 160 إرهابيا بالجبل".
ويبين المصدر ان "الارهابيين الاجانب يتوزعون على أربعة جنسيات وهي الليبية والمغربيّة والجزائرية والمالية كل جنسية مكونة من 15 فردا، على رأس كل مجموعة أمير جزائري يأمرهم ويخطّط فينفّذون".
كما يكشف المصدر عن "وجود أميرين تونسيين من سكنة جهة القصرين لا يتجاوز عمرهما العشرين سنة"، مضيفا ان قوات الامن نجحت في اعتقالهما "خلال الأيام التي تلت التحقيق مع العمري".
ويبين المصدر ان التحقيق مع العمري اماط اللثام عن "عنوان لمركز تجنيد يستخدمه المسلحون لضم شباب الولاية في مجموعات مسلحة"، مبينا ان "المركز يقع في حي يبعد قرابة الكيلومتر عن مركز المدينة وبضع كيلومترات عن جبل الشعانبي وكان تحت اشراف الاميرين اللذين اعتقلتهما قوات الامن".
وكانت القوات الامنية شنت خلال الأسبوعين الأولين من شهر آب الجاري عدة حملات اعتقال بين سكان هذا الحي، واعتقلت بالفعل نحو 100 من شبانه الذين يعتقد بتورطهم في الاعمال المسلحة، واكتشفت بحوزة احدهم "كتب عن الجهاد يستعين بها على اقناع الشباب ومبلغا ماليا باليورو".
ويلفت المصدر إلى أن "المجموعة الموقوفة من شباب الجهة تعدّ من الخلاية النائمة المتواصلة مع الخلية الجهادية بالجبل"، مضيفا ان "مهمّتها توفير المؤونة والأدوية عبر فتاتين من الجهة إحداهما ممرّضة بالمستشفى العسكري بالقصرين والأخرى زوجة أحد الشباب الجهادي".
لكنه اكد ان "الجماعة بدات بتغيير تكتيكاتها، من خلال تكليف إحدى هاتين الفتاتين بتنفيذ تفجيرات بالقصرين وبالمدن المجاورة لتشتيت عمل القوى الأمنية التي تضيق على إرهابيي الجبل".
وبحسب المصدر فإن هذه المجموعة "على صلة بأبي عياض القيادي في التيار السلفي الجهادي المعروف بأنصار الشريعة، وتضم عددا من عناصر مجموعة سليمان المتّصلة بتنظيم القاعدة والرّاغبة في تركيز مشروع الخلافة الاسلامية".
الداخلية: نجري عمليات دقيقة
وبينما تؤكد وزارة الداخلية إنها تجري عمليات أمنية دقيقة بالتنسيق مع وزارة الدفاع لملاحقة المتورطين في أحداث الشعانبي، فإن الجبل يبدو مفتوحا على سالكيه من الغرباء ومغلقا فقط على ساكني سفحه الذين يحتطبون ويصطادون فيها منذ سنتين.
ويقول المتحدث الرسمي باسم الوزارة محمد العروي في حديث الى (IWPR) انه "لا يمكن كشف معلومات قد تفيد الخصوم رغم تعطّش الرأي العام للاستفسار والوضوح".
أما الاهالي الساكنين على سفح جبل الشعانبي بمنطقة القصرين يؤكدون أنّ السلطات المحلية أغلقت المنفذ المؤدي إلى الجبل ، ومنعت الدخول إلى المحمية بدون إذن من وزارة الدفاع ومن إدارة الغابات.
ومع هذا، فان دورية للشرطة ترابط على طريق العودة الى العاصمة، غير بعيد عن جبل الشعانبي سمحت بمرور السيارة التي كنا نستقلها بيسر دون ايقافها، كما سمحت لسيارة لا تحمل رقما ومحملة بعبوات على الأقل ظاهرها يبدو بنزين.
سهام عمار