قوافل الشهداء

الكاتب: منال الحسن

قوافل الشهداء

الكاتب: منال الحسن

Tuesday, 22 September, 2015

كثيرا ما سمعت عن الخنساء في التاريخ، لكن لم أتوقع أن أرى امرأة تفوقها عطاءً. أذكر في أحد الأيام، في الشهر  الاول من عام 2013، كنت أجلس في الكرنك (في إشارة إلى وسيلة النقل العائدة لإحدى الشركات)، وأنتظر بفارغ الصبر أن ينطلق. قلبي كان قد سبقني إلى الشام.

كنت ذاهبة لزيارة ابني المعتقل منذ خمسة أشهر، هو الآن في سجن عدرا المر كزي في الشام. كنت متلهفة لزيارته، وأخبّئ دموعي ولكنها تفضحني. وإذ بامراة كانت تجلس بجانبي، سألتني: “خيرا ما بك؟” رويت لها قصتي، فأخذت تبكي وكأنها تنتظر من يسألها عن حالها، وقالت: “أنا ايضاً ذاهبة لزيارة ولدي عمر”. أخبرتني انه اعتقل في أيار/مايو 2012، وهو الآن في سجن عدرا مع ولدي. كان ابنها في الـ 17  من عمره، أي بعمر ولدي. لم تتوقف تلك السيدة عن البكاء. أخبرتني أيضا أن أخيه الكبير محمد خرج إلى عمله ولم يعد. اعتقله النظام في ايلول/سبتمبر 2012، ولا تعرف عنه شيئا. محمد أب لطفلين، كلما سألاها اين ابيهما تزداد النار اشتعالا في قلبها. كادت دموعها أن تقتلني، فأنا أعرف أين ولدي، وأزوره وقلبي يحترق كل يوم ألف مرةعليه، فكيف يكون حالها هي! تساءلت في نفسي إن كانت عينيها تعرف النوم.

وصلنا الشام في وقت متأخر، افترقنا وفي الصباح التالي التقينا مجدداً في سجن عدرا.  كنا نسجل أسماء أولادنا لزيارتهم، بعدها نخضع للتفتيش، ثم نقف بجانب بعضنا وراء شباكين من الحديد، يفصل بينهما مسافة ثلاثين سم. ننتظر أن ينادوا بأسماء أولادنا. جاء ولدها عمر أولاً، وعنمنا رأى أمه راح يبكي. تأثرت كثيراً، وأحسسته قريبا من قلبي، وكأنه ولدي.  ثم جاء ولدي وسلم علي، وعندها فوجئت انهما يعرفان بعضهما البعض، ويقيمان في نفس الجناح. انتهت الزيارة بعد ساعة، لملمنا جراحنا، تركنا فلذات أكبادنا وخرجنا. منذ ذلك الوقت أصبحنا أختين. جمعتنا اﻵﻻم واﻵمال. وفي نيسان/أبريل 2013، ذهبت لزيارتها فاذا بها تبكي ولدها الكبير محمد. جاءها هاتف من أحد الفروع الامنية في الشام، لم تذكر لي اسمه من هول المصيبة،  ليقول لها: “نريد منك المجيء إلى هنا، لاستلام هوية ولدك، فقد مات”. كيف مات؟ وأين؟ ومتى؟ لا يحق لها السؤال. نعم هكذا يعامل النظام الشعب السوري، وهكذا تجري الأمور عندنا.  شكت الخنساء أمرها لله، وظلّت تلاحق موضوع ولدها عمر. وكّلت له محاميا، ودفعت كل ما تملك من مال، وبعد  ثلاثة اشهر وفي تموز/يوليو 2013، جاءني هاتفها لتقول لي : “باركِ لي غدا سيخرج ولدي عمر من االسجن. إدعِ لي أن نعود إلى إدلب بخير”. لكنني أحسست بصوتها شيئاً من الخوف. سألتها: “ما بكِ يا ام محمد؟” أخبرتني أنها تشعر بالقلق، ولن تهدأ حتى يصل الى البيت. نعم إنه قلب الام. خلال رحلة العودة إلى إدلب، وعند أول حاجز على الطريق من الشام، وهو حاجز القطيفة اللعين، انتزعه الجيش من قلبها بحجة انه لا يملك تأجيلا للخدمة العسكرية. ولم يستجب لتوسلات الأم الملتاعة، ولا بأية وسيلة. كنت أحاول الاتصال بها، لأطمئن على خروجها من الشام بسلامة، ولكنها عندما أجابت على الهاتف، أول ما قالته لي: “عمر ضاع يا ليته بقي مع ولدك في سجن عدرا”. اختلط البكاء بالدموع، لم أعد أسمع ما تقوله لي. أغلقت الهاتف وغرقت في بكاء طويل، ثم انتظرت وصولها بفارغ الصبر، واحتضنتها كطفلة صغيرة، كانت تقول لي: “محمد مات وعمر ضاع”. قلت لها سنجده باذن الله.

وفي تشرين الاول/أوكتوبر 2013، اتصل بي ولدي، ففي سجن عدرا يسمح للسجناء الاتصال بأهاليهم كل أسبوع مرة، وقال لي: “ماما أعادوا عمر إلى سجن عدرا، ولكن لاتأتوا لزيارتنا إلا بعد أسبوع، حتى يتحسن ويستطيع المشي على قدميه”. لقد تنقل بين الفروع الأمنية وذاق كل أنواع العذابات، لكن الله شفاه ليعود إلى قلب أمه الملتاع على أخيه محمد. ذهبنا معا لزيارة أولادنا لكن الخنساء لم تعد معي. بقيت في الشام لتناضل من أجل إخراج ولدها عمر. وظلّت تحاول وتتوسل للقاضي مع محاميها، حتى حصلت على إخلاء سبيل لولدها الصغير عمر. وأصدر لها المحامي تأجيلاً للخدمة العسكرية، حتى يعبر بها على الحواجز. عادت به إلى الريف المحرر. خافت عليه من بطش النظام وهمجيته، خاصة بعد فقدانها لابنها محمد تحت التعذيب. لكن النظام الظالم لم يسمح  لها بالفرح، فقد اعتقل ابنها الثالث أكرم بعد شهرين من خروج عمر من السجن، بحجة أنهم سيسألونه عن أخيه عمر. رغم كل المحاولات لم تستطع إخراجه. سؤالهم له عن أخيه استغرق اربعة أشهر.  لم تعد تعرف بأي فرع هو؟ أهو حي أم ميت ؟ قالت لي: “لم أعد أعرف طعم النوم. أفكر بمحمد. ماذا فعلوا به حتى مات؟ وأخاف على أكرم أن يقتلوه كما فعلوا بأخيه محمد”. سألتها عن عمر فأخبرتني انه التحق بركب المجاهدين.  بعد سنة من  خروج عمر من السجن استشهد في معركة  نبل والزهراء في حلب. ذهبت لأهنئها باستشهاده، دقلت لها: “يا خنساء الثورة السورية لقد تفوقتِ على خنساء التاريخ بالعطاء.  قالت لي تلك الكلمات التي لن انساها ما حييت: “أولاد الخنساء استشهدوا في المعركة، دافعوا عن أنفسهم ولكن ولدي محمد مات تحت التعذيب، وأكرم لا أعرف إن كان ما زال يتعرض للتعذيب أم أنه مات. سأظل طوال عمري أفكر كيف مات محمد؟ وكيف سيموت اكرم؟ أماعمر فأنا فرحة باستشهاده، لانه استشهد كما استشهد اولاد الخنساء”.

Frontline Updates
Support local journalists