يبقى الدم اثمن من الماء

بقلم عدنان كريم في البصرة

يبقى الدم اثمن من الماء

بقلم عدنان كريم في البصرة

Tuesday, 22 February, 2005

مع غياب السلطة في جنوب العراق, تستغل العشائر العربية التقليدية نفوذها لتنفيذ عمليات الابتزاز والجريمة المنظمة اللذين يهددان الأمن وإعادة الإعمار في المناطق الشيعية الفقيرة.


تعاظمت في السنين الأخيرة قوة الشيوخ الذين يتربعون على قمة التجمعات العشائرية الكبيرة لكن في بيئة ما بعد الحرب التي تفتقر إلى القانون, شُوهت العلاقات والأعراف المعتادة التي تحكم حياتهم من قبل مجرمين يستخدمون التهديد بالفصل العشائري والعنف لتغطية آثارهم.


إن مستوى الجريمة وغياب التنفيذ الكافي للقانون للحد منها يثير أسئلة عن مصداقية ضبط الأمن على كافة المستويات في الجنوب.


تعاقد المقاول خضر العبيدي لبناء مركز شرطة جديد قرب قرية في الجنوب. وعندما هدده رجال العشائر المحليون بتفجير البناية, قام العبيدي بإبلاغ السلطات البريطانية التي وعدت بتقديم الحماية له. فاستمر بعمله لكن موقع البناء دُمر بعبوة ناسفة.


ومع ذلك فقد ذكر في تقرير الشرطة أن البناية انهارت بسبب وجود عيوب في مواد البناء. قال العبيدي,"غيرت الشرطة تقريرها لتجنب التورط في مشاكل مع العشائر إذا ما بحثت عن المجرمين. وهكذا يكون أهالي القرية قد نجحوا في إيقاف بناء مركز شرطة".


هنالك جرائم أخرى على نطاق أوسع وغالبا ما تدور حول عشائر معينة.ففي البصرة يوجد عدد من السفن الحكومية الراسية على الرصيف, أُخذت عنوة من قبل رجال العشائر وعند مطالبة السلطات بها تقوم هذه الجماعات بتفكيكها وبيعها في سوق الخردة.


يعمل اللصوص في وضح النهار لكن رجال الشرطة المحليون لا يستطيعون إيقافهم لأنهم مسلحون جيدا. يخشى منتسبي الشرطة من انتقام العشائر باستخدام قانون الفصل العشائري , إذا قبضوا على مشتبه بهم.


ثمة عصابة أخرى متورطة في سرقة أسلاك الكهرباء النحاسية التي هي جزء من الشبكة الوطنية في البصرة. ثم يُباع هذا النحاس في إيران, كما قال جعفر العلي وهو أحد سكان البصرة. لقد جرت بعض عمليات الاعتقال للمهربين لكن مسئولي الكهرباء في المدينة أنكروا أن الأسلاك تعود لهم خشية الثأر.


إن نظام الفصل العشائري التقليدي يُستغل أيضا من اجل الكسب المادي. عندما تُرتكب جريمة, يُفترض بقادة العشائر أن يتوسطوا بين عائلة الضحية وعائلة مرتكب الجريمة. في اغلب الأحوال, يُطلب من عائلة الجاني دفع تعويض وعادة ما يكون مالا. يقول الشيخ جبر الركابي وهو شيخ عشيرة في الناصرية:"إن الفصل العشائري قائم على مبدأ الدية المنصوص عليه في القرآن"الكريم"


يقول الشيخ مالك عبد النبي وهو شيخ عشيرة غني يعيش قرب البصرة, انه أُغرق بالادعاءات الباطلة الموجهة ضد أفراد من عشيرته من قبل أُناس يحاولون الحصول على القليل من المال.


لقد اشتكى مؤخرا عند رئيس عشيرة مجاورة بخصوص ادعاء مثير للغضب ضده. فقال له جاره إن الرجل كان سيئا وان عشيرته نفسها لا ترغب به. ورغم ذلك فقد نصح عبد النبي بان يدفع له "ليتجنب شره".


ويقول عبد النبي بأنه حُذر من انه إذا "حاول إيذاءه أو قتله فسنرد بقوة". ويفكر الشيخ الآن بالانتقال من هذه المنطقة.


بالرغم من أن السلطات والأحزاب السياسية المختلفة في المنطقة مطلعة بشكل جيد على الجرائم والانتهاكات, فان الجهود المبذولة من اجل إيقافها قليلة خوفا من العواقب. إن استجواب شيخ عشيرة ما قد يؤدي إلى الأخذ بالثأر.


يقول السكان المحليون إن سلطات الائتلاف في المنطقة لا تتدخل أيضا. مترجم عراقي مع قوات الائتلاف رفض الإدلاء باسمه يقول,"طالما أن المشاكل لا تشكل تهديدا مباشرا لهم فان البريطانيين لا يرغبون بالتدخل بالمشاكل التي تثيرها العشائر. انهم يرمون الكرة في ملعب الشرطة العراقية".


يقول الشيخ فالح المالكي وهو من القرنة في شمال البصرة,"إن القوات البريطانية والأحزاب السياسية غير مكترثة".


ويضيف, بان جذور هذه المشاكل تكمن في نظام صدام الذي عانت الشيعة في ظله من "الاضطهاد والجهل والفقر وعدم المساواة".


كما يقول أن ارث الحرمان إضافة إلى الفراغ السياسي في فترة ما بعد الحرب وسهولة الحصول على الأسلحة "دفع البعض لاستغلال الفصل العشائري للحصول على مكسب مادي غير شرعي لارتكاب الجريمة المنظمة ولسرقة أموال الدولة, وكل هذا حصل مع ضعف هيبة السلطات الأمنية".


لقد صارت الجريمة التي تدعمها العشائر موضوعا ساخنا للنقاش في جنوب العراق, فهي تعيق الجهود المبذولة لإرساء الأمن وتقلل الثقة بالسلطات. إن العديد من زعماء العشائر قلقون بشان الأذى الذي تلحقه الجريمة بمجتمعاتهم. ويخشى العديد من الناس أن الحل الوحيد هو الانتقال من مناطقهم هربا من موجة الجريمة.


كان نظام صدام يدفع الأموال للعشائر العربية مقابل دعمهم له بالرغم من انه كان يعاقبهم إذا ما بدا انهم يعارضونه. كانت العشائر الشيعية بالذات مشتبه بها.


في ظل ظروف طبيعية اكثر, تقدم العشيرة الدعم والحماية لأبنائها لا سيما عندما تكون الحكومة المركزية ضعيفة أو معادية لهم أو ببساطة غير مهتمة بهم. وبالمقابل فان العشيرة بقيادة شيخها تطلب الولاء لها. إن الافتراض الأساسي للانتماء العشائري هو أن أفراد عشيرة ما يجب عليهم المساعدة والدفاع عن كل أفراد العشيرة حتى لو كان لأفراد العشيرة بعض المتهمين بجرم ما بغض النظر عما إذا كانوا مذنبين فعلا عملا بقاعدة انصر أخاك ظالماً كان أو مظلوماً,. تتقدم روابط الدم على باقي الالتزامات, كما توجد حالات يقتل فيها أفراد عشيرة ما أحد أبنائها لقيامه بعمل سيئ ضد فرد آخر منها.


بدأت البُنى العشائرية بالتهدم في القرن العشرين مع نمو التحضر والحكومة المركزية وفرض القانون المدني. لكن حزب البعث شجع إعادتها في العقدين الماضيين باعتبارها وسيلة للسيطرة السياسية ولتوسيع سلطة الدولة لا سيما في المناطق الريفية ومناطق الشيعة في الجنوب حيث كانت المعارضة قوية.


يقول جازع الركابي, كانت لصدام دائرة خاصة لإدارة العلاقات مع العشائر. وقد قسمت هذه الدائرة العشائر إلى فئتين "أ" و "ب" حسب عدد أفراد العشيرة. كانت تُخصص للعشائر الكبيرة من الفئة "أ" أموالا طائلة إضافة إلى مكافئات أخرى مثل الأسلحة. بالمقابل كان على الشيوخ أن يوقعوا تعهدا بالإبلاغ عن نشاطات المنشقين والحفاظ على ولاء إفرادهم. ونتيجة لذلك ازدادت في الثمانينات والتسعينات هيبة وقوة عشائر الفئة "أ" ذات الامتيازات العديدة.


وحسب ما قال شيخ آخر هو سلطان ألا سدي من البصرة فان هذه الترتيبات أدت إلى "تشويه القيم العشائرية التقليدية"


في نفس الوقت, فان الأفراد العاديين من جميع العشائر الصغيرة والكبيرة عانوا من نفس المشاكل - الفقر والاضطهاد- حالهم حال بقية الشيعة.


في هذه البيئة –حيث تباع القيم التقليدية من اجل المنفعة الشخصية في جو سياسي مضطرب تنمو أزمة اسمها الفصل العشائري في قلب الجنوب العراقي


عدنان كريم لواء سابق في البحرية العراقية


Frontline Updates
Support local journalists