تطلعات قاتمة لساكني أهوار البصرة

يصارع سكان الأهوار في سبيل إحياء نمط حياتهم السابقة

تطلعات قاتمة لساكني أهوار البصرة

يصارع سكان الأهوار في سبيل إحياء نمط حياتهم السابقة

.



عندما شاهد احد السكان مظاهر الملابس التي دلت على إننا من سكان المدينة، ظن بأننا تابعين لجهات حكومية، فنادى علينا "رحم الله والديكم على إرجاع الماء لنا".



يحاول ساكني الأهوار في جنوب العراق ان يعيدو الحياة الى أسلوب حياتهم القديم، بعد ان مزقته عملية تجفيف الأراضي المغمورة بالمياه، والتي كانت تمثل مصدر المعيشة بالنسبة لهم.



فالى فترة قريبة، لم تكن لسكان الأهوار أسباب وجيهة تشعرهم بالإمتنان لحكومتهم.



كان موطنهم فيما مضى يشكل أكبر الأهوار في الشرق الاوسط، حيث تبلغ مساحتها ضعف مساحة اراضي ايفركلايدس (Everglades) في فلوريدا و الذي يعتقدون بأنها كانت موقع جنة عدن الأسطورية.



وقد شهدت السنوات الأربعين الاخيرة انكماش هذه الاراضي بنسبة 95%. أستغلت المنطقة لغرض المياه والنفط، كما تم تجفيفها بسبب الحرب، و بأفظع ما يمكن في عهد الرئيس العراقي السابق صدام حسين، حين جفف الاهوار انتقاما من انتفاضة الشيعة التي اندلعت عام 1991.



وبذلك، فقد تم تخريب مساكنهم، حيث شمل التخريب ثلاثة ارباع المساحة وادى الى تهجير 400,000 ساكن الى الضواحي الفقيرة للجنوب العراقي.



وبعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، تم تدمير السدود التي بناها عند روافد المياه. و بإشراف من قادة العراق الجدد، تم اعادة غمر الأهوار بالمياه مجددا.



وعقب ذلك، عاد آلاف السكان النازحين الى مساكنهم القديمة في اللأهوار، محاولين استعادة طريقة حياتهم القديمة، وكأنما العقود التي مضت من الإضطرابات والجيشان لم تكن غير لحظات فاصلة من الزمن.



يعتقد بعض التاريخيين ان عرب الأهوار ينحدرون من الحضارة السومرية القديمة. حيث عاشوا لمدة ألف عام على الصيد ورعي الجاموس في دلتا دجلة والفرات الوارفتين.



وفي زيارة مؤخرة للأهوار، وجد معهد صحافة الحرب والسلام بأن سكانها يناضلون من أجل العيش في بيئة يمكن لتأرجح الحياة هذه فيها ان تتقهقر ثانية بسهولة.



تمتد الأهوار على نحو 50 كيلو متر من شمال ميناء البصرة. حيث يمتد الطريق عبر قطعان الأغنام التي ترعى على العشب الوفير من جهة الشرق ومن ثم تشمل مسالك واسعة من الصحراء... تزين هذه المساحة بالمنازل الخربة، باتجاه الغرب.



فهناك، لا توجد أي مظاهر للمسات الدولة في هذه الأراضي، فهي بلا مدارس، ولا مراكز شرطة، ولا حتى جوامع.



احد سكان الاهوار الذي يدعى علي جاسم البطاط يقول بان هذه الطريق التي نسلكنها كانت قد بنيت بعد عام 2003 على ما كان بالاصل سدا ترابيا شيد من قبل حكومة صدام.



موضحا "لقد منع السد تدفق المياه، وجفف الهور، واجبرنا على الهجرة".



يبلغ البطاط منتصف الاربعينات من العمر الا انه حركاته البطيئة، وبشرته الشاحبة تجعله يبدواكبر من ذلك. يقول البطاط مشيرا الى الكثبان الرملية والاكواخ المتهالكة "كانت هذه قرى عامرة قبل الانتفاضة... لم يرجع غير بضع مئات من الناس بعد عودة المياه مرة اخرى".



جاش البطاط بالعاطفة وهو يسرد اسماء العشائر التي سكنت هذه المنطقة: السادة، الحمادنة، الشغانبة، البو بخيت، والقبيلة التي ينتمي اليها البطاط.



بعد ان تركنا هذه الطريق، ركبنا الزورق لندخل الى عمق الاهوار، التي كانت اراض قاحلة الى فترة قريبة.



في المياه الراكدة تلك، شاهدنا بقايا سريالية للصراع مع صدام. حيث كانت تمر بقايا القصب المحروق من تحت الزورق، واستنادا لما قاله البطاط، فان القصب والبردي والنباتات اجمع تم حرقها بأوامر من علي حسن المجيد، احد رجالات صدام والمعروف على نحو أفضل بلقبه "علي كيمياوي".



قاد علي كيمياوي الحملة على انتفاضة الشيعة التي تلت هزيمة صدام في حرب الخليج الاولى. وقد اتخذ المتمردون الشيعة والفارون من الجيش من اراضي الاهوار المليئة بالقصب الكثيف كمخابىء لهم. و قيل بان المروحيات العسكرية استخدمت وقتئذ قنابل النابالم لإخلاء المنطقة.



وصل بنا الزروق الى كومة من الحديد مغمورة الى النصف بالمياه. تبين انها دبابة روسية الصنع طراز تي-72... غمرت فوهة الدبابة بالمياه، حيث كانت المويجات تتكسر متباطئة على جوانبها، وكانما تمسح عنها سخام الحرب.



قال البطاط موضحا "ضربت الطائرات الانكليزية الدبابة في عام 1991. وبعدها، اصبح الهور جافا تماما، لكي يكون ساحة قتال لمثل هذه الآليات".



حتى اليوم، ما يزال العديد من سكان الريف العراقيين يعتبرون كل الغرب من ذوي البشرة الفاتحة "انكرييزي" كما يلفظونها، وهم يعنون بها "الانكليزي" ويعود استخدام اللفظة الى فترة حكم الاستعمار البريطاني.



مررنا بزورق تقوم بتجذيفه امرءاتان شابتان بوجوه مدبوغة، كان الزورق محملا باكوام من العشب الاخضر، يقوم ابناء الهور بجمعه كي يبيعوه كاعلاف للحيوانات في المناطق الريفية القريبة.



غانم غازي، الذي كان يقود زورقنا، علق على ذلك المشهد بالقول "هذا العشب هو مصدر رزقنا الوحيد الآن... لا نستطيع الرعي او اصطياد الاسماك هنا بعد الان، لان المياه لا تسمح بذلك... انها معقمة".



يقول الخبراء بان الانهار التي تغذي الاهوار اليوم هي شديدة الملوحة وملوثة لدرجة يصعب معها عيش اي كائن حي.



فيما يرى البطاط بان المياه "غير الصالحة للشرب" هي علامة من علامات الفشل الحكومي لأعادة تأهيل الاهوار.



البطاط، وهو اب لـ13 طفلا، يعرب عن رغبته بالحصول على طرق افضل للعيش، من خلال توفير الكهرباء وخدمات تعليم متطورة، بالاضافة الى الخدمات الصحية والمياه النظيفة.



"المياه هي مصدر كل معاناتنا" قالها البطاط وهو يصرخ بغضب. واسترسل في حديثه "لا تصل تناكر المياه الى مناطقنا، ليس لدينا خدمات كهرباء، شبابنا قتلهم العوز، واطفالنا ينشأون كالمتوحشين بدون تعليم".



يقول سكان الاهوار بانه لم يتم تعويضهم عن الماشية التي تركوها لدى هروبهم من الأهوار، ولم يتلقوا اي مساعدة حكومية لدى عودتهم الان.



عاشور الشغانبي، رجل طويل القامة ذو بشرة لوحتها قساوة الجو، والتي هي نموذج لساكني الاهوار، يستذكر كيف امر علي كيمياوي بتدمير الحي الذي يقطنه، ويقول "لقد نجونا بارواحنا... بالكاد كان لدينا وقت لاخذ اطفالنا مع ملابسهم".



ويضيف الشغانبي بانه ومنذ عودته الى الأهوار شهد زيارات عديدة من قبل الفرق الانسانية، الا انه لا يوجد اي اشارات على توفير السكن الذي وعدوا به.



الصور الفضائية التي التقطت عام 2006، اي بعد ثلاث سنوات على سقوط نظام صدام، اظهرت بان الاهوار استرجعت بنسبة 70% من حجمها في اوئل السبعينيات من القرن الماضي، وقبل بداية مشروع التجفيف الرئيسي الذي تبناه نظام صدام.



وفي العام 2009 قال مسوؤلوا البيئة بان الاهوار بدات بالانكماش مرة اخرى، وهي الآن تغطي 30% من مساحتها الاصلية في السبعينيات.



يرجع ذلك الى السدود التي شيدت عند منابع نهري دجلة والفرات في سوريا وتركيا، والتي ساهمت في تقليل حجم المياه التي تغذي المستنقعات والاهوار، واطالت فترة الجفاف في العراق، وهي في النهاية قد "زاد الطين بلة" كما يقول المثل العربي.



رئيس اتحاد المهندسيين الزراعيين في البصرة علاء البدران، يقول بان الاهوار ستستمر بالانكماش، مبددة بذلك المكاسب التي انجزت.



وهو يرى بان "نسبة الملوحة تستمر بالارتفاع"، منوها "وحينما تمتص التربة الملوحة، سيكون من الصعب ازالتها بعد ذلك".



لا زلنا نجوب الاهوار بزروقنا، فقد انطلق بنا بمحاذاة القصب والبردي حيث تجمع الرجال والنساء الذين ينتمون الى نفس العشيرة لحصد العلف... كانت هناك فتاة صغيرة لا تتجاوز الثلاث سنوات بشعر اشقر مبعثر، تجلس وحدها في قارب يبعد قليلا عن اهلها.



حين مررنا بقربها، اشار البطاط في عرض الحديث قائلا "ان غرقت، فلن تكون هناك مشكلة، حيث نستطيع تعويضها بسرعة. نحن نتكاثر كالقطط. هل تدرك ذلك، نحتاج الى اعادة تأهيل انفسنا بانفسنا، لا نستطيع الانتظار لحين وصول المساعدة التي قد لا تتحقق على ارض الواقع".



علي ابو عراق/ احد متدربي معهد صحافة الحرب والسلام في البصرة.
Frontline Updates
Support local journalists