طائر الفينيق في حلمه وحلمنا
الكاتب: غزوة
طائر الفينيق في حلمه وحلمنا
الكاتب: غزوة
كانت ليلة عرفة، الناس في الحج ينادون: “لبيك اللهم لبيك”. بينما كنا نعيش ليلة مقدسة أخرى في دير الزور، معمّدة بالدم والتراب والجراح، والنصر الذي كنا نترقّبه ونخشاه. نحن من اعتدنا دفع أثمان النصر الباهظة، منذ البدء بتسليح الثورة السورية.
فجر يوم الاثنين ،14 تشرين الأول/اكتوبر 2013، أغمض عينيّ قليلاً ليمرّ شريط الذكريات سريعاً، ويضغط على النقطة العمياء في الدماغ حيث لا أريد أن أتذكر. لا لا، أريد أن أتذكر كل شيء. أريد أن أرى وجه بشار الملائكي كما لم اره من قبل، ولن أراه بعد ذلك إلّا في غفلة من الذكريات.
كان شاباً في الثلاثين من عمره يمتلئ رجولة وسعادة. كنا بالنسبة له العائلة التي عوضته ابتعاد أبويه عنه، وكان يقف هناك على حافة قلوبنا فنسقط، ولا يسقط. أخ عوضنا الله به عن فقدان شقيقنا الشهيد. بشار زوج أختي الكبرى، لطالما أشعرنا بأنه الأخ والأب. مذ وطأت قدماه أرض دارنا أول مرة لخطبة أختي قبل اربعة أعوام.
لم يبحث بشار عن الاعذار، حين بدأت الثورة اختار الوقوف إلى جانب الثوار. لم ترهبه زنزانة الأمن السياسي ولا هجوم الشبيحة على المظاهرات، ولم تقعده عن الثورة عينه المصابة.
أغمض عيني مرة أخرى وكل أملي أن أذكر آخر صورة لبشار قبل ذاك اليوم. هاهو بشار يمرّ بنا ليسلّم ويودّع ويربت ويمزح. هاهو بشار الذي لطالما كان الفتى الجميل.
الذي يسبي جماله ألباب الصبايا مذ عرفته. بشار كان ينتظر ذاك اليوم كما لم ينتظرشيئا من قبل. جاء فرحاً كطفل في عامه الأول في المدرسة يترقب دخول الامتحان. “حبيبتي لا تقلقي اليوم سيكون موعد الاقتحام الذي طالما حدثتك عنه. سأكون في المجموعة الأولى، سنعود منتصرين بإذن الله، سنحرر الحي بكامله، أنا متاكد من ذلك”.
كان على شقيقتي أن تحفر ابتسامة كاذبة على وجهها، وهي تستمع لكلماته الفرحة. ابتلعت شقيقتي كل ألمها وكل كلمة قد توهن عزيمته قبل ان يمضي. قالت له “أثق بك وبرفاقك الله معك” .
كانت الساعات تمر كلمح البصر أمامها، لو كان بإمكانها إيقاف عقارب الساعة لفعلت. وحان الموعد المحدد للاقتحام، إلّا أن شيئا لم يحدث، وسحبت أنفاسها ظناً منها أن الموعد قد تأجل. حمدت ربها كثيراً، وحاولت أن تهدئ من روعها وتنام، وعندما يأتي زوجها في الصباح سيسرد عليها أسباب التأجيل.
الساعة السادسة صباحا وقع انفجار عظيم، هز جدران المنازل، تفتحت النوافذ وانهار بعض الزجاج من شدة الضغط. “يا إلهي لم يتغير الموعد بل تأخر ساعة واحدة فقط”. لم تعد تميز الأصوات من بعضها رصاص وقذائف وراجمة كلها مع بعضها. كانت تراقب التلفاز وتخرج إلى الشارع لتسأل المارة عن التطورات، ولكن الشوارع خالية حتى من القطط. هي وحدها من كانت هناك فمن هذا الذي يخاطر بحياته في مثل هذه الظروف. لم تسلم اي حارة من قذيفة أو صاروخ. بقيت كثيراً على هذا الحال، تسأل الله أن يعيد لها زوجها، لا يهم إن كان فاقداً أحد أعضائه، المهم أن يكون على قيد الحياة، وألّا يعيش ابنها بقية حياته يتيماً بلا أب.
هدأت الاشتباكات وزوجها المنتظر لم يعد. قررت الذهاب إلى أصدقائه علها تسمع أخباراً تطمئنها. هم يعملون في نقطة طبية في موقع الاشتباك والأخبار عندهم ستكون مؤكدة. فسارت في طريقها هي وأمها، وقلبها يسبق قدميها بكثير. رأت أحدهم وقال لها الأخبار جيدة والحمد لله وقد أوقعوا بالجيش خسائر فادحة، و زوجها سيعود إليها قريبا. رسمت ابتسامة عريضة على وجهها وقالت له “الله يبشّرك بالخير، ويريّح قلبك مثل ما ريّحت قلبي”. وفي طريق عودتها رأت صديقه الآخر، كان قادماً من قلب الحدث، ركضت نحوه وقالت “مبروك عليكم النصر ولكن أين زوجي؟ ألم تكونا سوية؟” أجابها “بلى، ولكن أي نصر هذا الذي تتحدثين عنه؟ لقد فشل الاقتحام. عودي إلى المنزل وحضّري لزوجك سريراً، لقد أصيب إصابه طفيفة”. أصيبت بالذهول يا ليتها لم تلتق به لتعيش فرحة النصر وقتاً أطول، وهي مطمئنة على زوجها، ولكن لا يهم ألم تكن قبل ساعات تدعو فقط ألا تفقده، حتى وإن أصيب. أكملت طريقها تجر أذيال الخيبة وروحها تعتصر ألماً.
عشر دقائق كانت كفيلة بأن تحضر فراش زوجها، وتتظاهر بالقوة والثبات. توقفت سيارة الإسعاف عند باب بيتها، نزل منها الكثير من الشباب يحملون زوجها الغائب عن الوعي. لقد نسيت أن ترسم في خيالها هذا المشهد المرعب، لتكمل دور المرأة القوية صاحبة القلب الصامد. ولكن ألم يقل لها أن إصابته طفيفة، لما حاله هكذا عارياً من الملابس ولا يغطيه سوى غطاء أبيض رقيق؟ سألتهم “لما هو غائب عن الوعي؟” فأجابوها بأنه تحت تأثير المخدر فقد قاموا بتخييط جرحه. جلست قربه مصدقة قولهم. ولكن كلما دخل زائر جديد كانت تسمع خبراً جديداً عن وضع زوجها، بشكل أدق. علمت أنه تلقى عدة رصاصات دخلت من فخذه الأول مخترقة الثاني مع رصاصات أخرى لا تذكر أمام هذه. سألت نفسها أسئلة كثيرة وهي ترى زوجها في وضع جديد. لماذا وكيف وماذا؟ اختفت الحيرة من تقاسيم وجهها. فجأة رايت في عينيها إصراراً غريباً.
حسمت أمرها وقررت أن تكون قوية كما زوجها. من أجله تحمّلت معه عاما ونصف العام من العذاب في المشافي التركية. هي قررت ان تعيد بشار جميلاً قوياً كما كان.
الآن أنظر إلى وجه بشار وملامحه، لم يعد جميلاً كما أرادت له ذاك اليوم. لكنه اليوم بات جاهزاً للذهاب إلى حلمه وحلمننا مرة أخرى باسماً هادئاً قوياً كما عهدناه.
كقصيدة جميلة في خاصرة الزمن المر ما زلنا نغنيه. وكطائر الفينيق ينبعث من الرماد ما زال بشار يقاتل.