مستنزف في العراق، وتعيده مكة حياً منتعشاً

صحفي عراقي يعثر على التجدد والانبعاث خلال رحلة حج، فيما يكافح بلده بدون حكومة.

مستنزف في العراق، وتعيده مكة حياً منتعشاً

صحفي عراقي يعثر على التجدد والانبعاث خلال رحلة حج، فيما يكافح بلده بدون حكومة.

محمد فرات (تقرير الازمة العراقية رقم 349، 13 آب- أغسطس 2010)

عندما أقلعت الطائرة من بغداد، أغمض الحجاج اعينهم و أحنوا رؤوسهم للصلاة. فقد بدا وكان الاقلاع في الهواء قد قربنا حالاً من وجهتنا، المسجد الحرام في مدينة مكة المكرمة.

بينما هناك على الارض، أستطاعت الفوضى التي كانت تعم المطار ان تقمع اي احساس بمغادرة ناجحة.  

فقد تحولت ساعة واحدة من الانتظار قبل الصعود الى الطائرة الى تأخير قاس استمر ست ساعات.

وكانت جماعتنا المؤلفة من حوالي 40 حاجاً تنتظر في بناية ذات واجهة زجاجية تشرف على مدرج المطار. وفي الخارج كانت تجثم الطائرة القبيحة القديمة التي من المفترض ان تأخذنا الى مقصدنا.

وقد قيل لنا ان السبب وراء التأخير هو وجود اطار خال من الهواء. "هل استدعيتم الميكانيكي؟" سأل أحد الحجاج مازحاً.

واعلن ممثلوا الخطوط الجوية ثلاث مرات بان الطائرة جاهزة للاقلاع، ولكنه اتضح بان التنبيه كان خاطئاً في المرات الثلاثة.

وفي كل مرة يهرع فيها الركاب الى البوابة بأمل ان يكونوا أول الذين سيصعدون الى الطائرة، يعودون غاضبين ليجدوا مقاعدهم في الصالة قد حجزت من قبل اناس آخرين.

أشعل الكثير منهم السجائر متجاهلين تماما التنبيهات المستمرة التي كانت تذاع عبر نظام التنبيه الصوتي بان التدخين ممنوع. وبعد عدة ساعات انقطع التيار الكهربائي.

وكان على الركاب الذين يريدون مغادرة صالة الانتظار للذهاب الى المرافق الصحية او الكافتييريا تسليم جوازات سفرهم. والقليل منهم فقط كان يتم تفتيشه عند عودتهم ثانية الى الصالة. وأعتقد بانهم كانوا طاعنين في السن ليستطيعوا ان يشكلوا أي تهديد للامن.

وقد تخيلنا بشكل ما، بأن مشاكل بقية مناطق العراق لا يمكنها ان تنطبق علينا نحن الحجاج في مهمة مقدسة. وكم كنا خاطئين في ذلك.

فالبلد لا زال يعيش في حالة من اللااستقرار، ولازال ساسته يتجادلون حول انتخابات آذار الماضي، والتي كانت من المفترض ان تشفي جروح الصراع الطائفي.

واذا كان قادتنا يحتاجون، على الأقل، الى خمسة أشهر لتغيير حكومة، فمن يستطيع ان يلوم خطوطنا الجوية لاستغراقها ست ساعات في تبديل اطار؟

وعندما كانت الطائرة جاهزة لنا أخيراً، ازدحم الحجاج عند البوابة الضيقة. وصرخ النساء العجائز اللواتي يرتدين عباءات سوداء للسماح لهن بالدخول، كما لو كن قلقات من عدم وجود مقاعد كافية للجميع.

وخطر لي ان هؤلاء النسوة ينتمين الى جيل كامل من العراقيين الذين تقلصت تحركاتهم بسبب النزاعات والعقوبات الاقتصادية.  

وبالرغم من انهم كانوا مواطنين دولة مزدهرة ذات مرة، فانه من المحتمل ألا توجد اي فيزا اجنبية على جوازات سفرهم منذ 1980، وهي السنة التي دشن فيها صدام حسين أولى حروبه الثلاث. كانت لهفتهم للمغادرة مفهومة.

ألقيت نظرة أخيرة على المكان الذي قضينا فيه انتظارنا الطويل- مكب لمخلفات من فضلات الطعام، وسجادات تلطخت بسبب المشروبات المسكوبة.  بدى وكأن عاصفة قد ضربت صالة المغادرة.

كنت الأصغر عمراً بين مجموعة الحجاجين الذين كان معظمهم بغداديين في عقدهم الستيني. وكان شبابي يعني ان يتم تطوعي مباشرة لحمل حقائب اناس آخرين. 

وعلى متن الطائرة جلس الشيعة والسنة بعيدين عن بعضهم البعض، عاكسين بذلك الانقسامات الموجودة بين طائفتيهما على الارض.

لكن حالما أقلعنا، توحد الجميع في دعاء " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد".

كانت رحلتنا الى مكة المكرمة عبارة عن شكل مختصر من الحج، او حج مقدس يعرف باسم العمرة.

كنت قد أديت العمرة لأول مرة في 2004 عندما كان بلدي يخوض تمردا عنيفاً ضد القوات الامريكية. قامت وسائل الاعلام العربية بتغطية الصراع عن كثب، وكان ينظر للعراقيين في معظم أرجاء العالم الاسلامي على انهم ابطال او ضحايا نبلاء.

وبالرغم من ان القومية والعرق يفقدان الكثير من معانيهما عندما يكون الانسان في رحلة حج ، فان المواطن العراقي الذي كان يحج الى مكة المكرمة في 2004 يمكن اعتباره أسطورة حية.

وعند سماع الحجاج باننا عراقيين، غالباً ما كنا نسأل ما اذا كنا من مدينة الفلوجة التي كانت قد أصبحت رمزاً للمقامة ضد الامريكيين. واستسلم أحد أصدقائي البغداديين للغواية هذه وبدأ يقول للغرباء بانه من المدينة المحاصرة، الشيء الذي جعله نجماً في الحال.

اتذكر بأنني لاحظت رجلاً مسناً ينظر الي باهتمام حين كنت واقفاً في طابور الوضوء قبيل صلاة الفجر. كانت لحيته حمراء مخضبة بالخناء، ويعتمر عمامة بيضاء، مرتدياً رداءاً وسرولاً طويلين من النوع الذي يرتديهما الافغانيون او الباكستانيون. كان وجهه مليئاً بالتجاعيد، ومع ذلك كانت لعينيه لمعاناً خاصاً.

كان الازدحام شديداً في المسجد في ذلك الوقت، واعتقدت بان الرجل يريدني ان اترك له مكاني في الطابور، لكن بدلاً من ذلك اشار الي بفضول كما لو انه يريد ان يسألني " من اين انت؟"

اجبته وانا أسأله بالانكليزية من اي بلد هو. باكستان، أجابني الرجل. وبدوري أخبرته بأنني من العراق.

تغيرت تعابير وجهه الى حزن عميق. وأخذ كتفي بيديه الخشنتين وعانقني بقوة. " ليحفظك الله" قالها الرجل منتحباً. أتذكر بأنني فكرت ساعتها، بانه في مكة وحدها، وليس في أي مكان آخر، قد أجد مثل هذا اللقاء المشحون بالعواطف مع رجل غريب.

لم يعد العراق خطراً كما كان في السابق، وتلقي صراعاته الآن اهتماماً أقل عند الغرباء والاجانب.

في زيارتي الاخيرة الى مكة، أمضى مواطنو بلدي أغلب أوقاتهم في غرفهم في الفندق وهم يدخنون ويناقشون، بجدية تامة، حالة الجمود السياسي في البلاد. كما وكان يبدو بانهم يقضون وقتاً اطول وهم يتسوقون الهدايا لأقاربهم، أكثر من متابعتهم أداء الطقوس الدينية.

وكجماعة، بدا ان العراقيين هم أكثر تنوعاً من غيرهم من الجنسيات. فقد كان من بين جماعتنا كلتا الطائفتين السنية والشيعية، كما كنا أكثر أجتماعية ومناقشة من غيرنا.

وفي خضم العمرة، قرر عدد من الحجاج التوقف عن اتباع الدليل السياحي الذي قام بحجوزات رحلتنا، لانهم كانوا غير راضيين عن تصرفاته.

وقال أحد الحجاج بانه يجب علينا التصويت لاستبداله. لست متأكدا ما اذا كان يمزح أو لا، لكنني رأيت ذلك كحالة مشابهة  لحالة الجمود السياسي في بلدي، وعجز قادتنا في الاتفاق على تشكيل حكومة.

قضينا عدة ايام في المدنية المنورة قبل سفرنا الى مكة المكرمة من أجل أداء ذروة مناسك الحج. وصلت عند الغروب الى الفندق الذي نزلت فيه، والذي يبعد مسافة بضعة مئات من الامتار عن الكبعة الشريفة.

كانت غرفتي في الطابق الثاني عشر. كان الافق يعج بالبنايات الطويلة، وتخيلت المئات من الحجاج ينظرون الى الكعبة من نوافذهم وهم مذهولين مثلي.

كان مصعد الفندق مزدحماً بالحجاج، وجميعهم يرتدون رداءاً أبيض، وهو من المستلزمات المطلوبة وفقاً للتقاليد. رايت وجوهاً من منطقة شرقي آسيا والهند وافريقيا والشرق الاوسط واوربا. ثم لمحت نفسي في المرآة وأدركت كم كان سهلاً ان انصهر داخل هذه المجموعة.

وسواء أبيت او شئت، لم أعد موجوداً كعراقي.

كان الصمت مشحوناً داخل المصعد. بدا ان الجميع يفكرون في الشيء نفسه: اللحظة التي تقع فيها عيناهم على المسجد الشريف، وعلى الكعبة المشرفة التي هي في قلب المسجد.

وعند احدى البوابات الكثيرة نزعنا النعال. وابتلعت موجة جديدة من الحجاج رفاقي الذين كانوا معي في المصعد.

دخلت المسجد كرجل لا حول له ولا قوة، مرتدياً قطعة متواضعة من القماش وحافياً ومجرداً من كل متاع الدنيا. ومع ذلك لم أشعر بمثل تلك القوة من قبل.

وجعلني أدائي الصلاة مع مئات الالاف من المسلمين ان اشعر بانني مجرد ذرة، لا أهمية لها، إلا انها عصية على التدمير.

وفي محل الحلاق، حلقت شعر رأسي كجزء من طقوس العمرة. وعند النظر الى المرآة، لم أر سوى رجلاً ملفوفاً في قماش أبيض.

وفي لحظة ما، سقط هاتفي المحمول في بركة صغيرة من المياه، وفقدت جميع المعلومات المخزونة فيه. عرفت بان هذا يمثل رمزاً لبداية جديدة. وعدت الى العراق رجلاً جديداً.

محمد فرات محرر محلي في معهد صحافة الحرب والسلام من اربيل. تحرير نيل آرون، محرر قسم تقارير الازمة العراقية في المعهد- مكتب اربيل.

Iraq
Frontline Updates
Support local journalists