بيتنا صار كومة تراب وبقي مفتاحه
الكاتب: فيان محمد
بيتنا صار كومة تراب وبقي مفتاحه
الكاتب: فيان محمد
تسمّرت عائلة سماح أمام التلفاز، تتابع أخبار تحرير ناحية تل حميس في الريف الجنوبي الغربي من مدينة القامشلي, من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وذلك على يد وحدات حماية الشعب الكردية التابعة لـ”حركة المجتمع الديمقراطي“، بعد حملة عسكرية أعلنتها وحدات حماية الشعب في 20 شباط/فبراير 2015.
وما إن أعلن المذيع في قناة روناهي الكردية عن دخول قوات وحدات حماية الشعب إلى قرية أبو خزف، حتى علت زغاريد أم سماح إلى البيت والحي معاً.
في اليوم التالي لإعلان التحرير دعت وحدات حماية الشعب المدنيين لزيارة بيوتهم. جلست سماح وأمها وأختها في المقعد الأخير من الباص الذي سيقلّهم الى القرية. سرعان ما سرحت بخيالها، وعادت بالذاكرة إلى يوم نزوحهم من القرية قبل أكثر من سنة. وذلك بعد أن بدأت قذائف تنظيم الدولة الاسلامية، التي كانت تتساقط على القرية بشكل عشوائي.
قرية أبو خزف تقع بالقرب من بلدة تل معروف. وتبعد عن القامشلي نحو 40كيلومتراً. كانت هدفاً لقذائف التنظيم، لاسيما أنها مسقط رأس عضو مجلس الشعب محمد فارس.
كانت القذائف في البداية تسقط في الأراضي الزراعية التابعة للقرية، ولكنها في الفترة الأخيرة بدأت تستهدف منازل المدنيين, وفي يوم نزوحهم دخل عناصر التنظيم القرية والقرى المجاورة.
ما إن سمع والد سماح أن التنظيم قام بأسر العشرات من المدنيين من قرية تل معروف، حتى طلب من أفراد العائلة تجهيز بعض الحاجيات البسيطة، استعداداً للنزوح، وذلك نزولاً عند رغبة أم سماح، خوفاً على بناتها، فحمايتهن الهاجس الذي يؤرقها.
يا أم سماح ايقظي البنات وخذيهن إلى السيارة، ولكن حذاري أن تشعلوا الكهرباء وإلا أصبحنا هدفا لقناص التنظيم المتمركز على سطح المدرسة. قال والد سماح مخاطبا زوجته، وكان ينوي البقاء لحراسة بيته فهو غير موالي لأي جهة سياسية.
ولكننا لن نتحرك من دونك. ردّت أم سماح قاطعة عليه الطريق.
استلقت سماح وإخوتها، في المكان المخصص للحمولة في سيارة البيك آب، ولكن الفضول دفعها إلى رفع رأسها قبل أن يدير والدها مفتاح السيارة لينطلقوا بها. من بين حدائد الحماية الموجودة على السيارة، كانت عيون سماح وأختها هند تمعنان النظر في بيتهما، الذي رغم الظلام الدامس تراءى لهما كحضن دافئ.
وتحدثت بصوت مبحوح: سأعود إليك يا بيتي. ثم أعادت رأسها إلى داخل السيارة. كانت هند أيضا تستوي على أرض السيارة. وكانت القامشلي هي الوجهة، بينما كانت سحب الدخان الأسود تتصاعد إلى السماء، كذلك هتافات الله أكبر الصادرة من عناصر التنظيم من بعيد.
كانت السيارة تسير ببطء بين الأراضي الزراعية، من دون أن يشعل والدها الأضواء خوفاً من استهدافها.
همست سماح لأختها: هل تعتقدين أننا سنعود إلى بيتنا مرة أخرى؟ لقد نسيت دفتر ذكرياتي الذي كنت أدون فيه خواطر الشعر… هذا الدفتر رافقني مدة طويلة … كيف نسيته؟
ردت هند بصوت مخنوق: عليكِ بكتابة الشعر على دفتر جديد.
بسبب بطء السيارة خوفاً من أن تلفت الانتباه إليها، لم يكن بإمكان سماح أن تعلم إلى أين وصلوا. ولكنها متأكدة أن خروجهم من القرية استغرق وقتا لا بأس به.
فور وصولهم إلى القامشلي استأجروا بيتاً، ولكن هذا البيت لم ينسِ سماح وهند بيتهما الطيني في القرية. فأغلب أحاديثهم كانت عن البيت وما إن كانوا سيرونه مجدداً… وحسرة دفتر الشعر الخاص بسماح.
وبينما هي غارقة في ذكريات نزوحهم، علا صوت السائق وهو يعلن وصولهم الى القرية.
كان قلب سماح يركض قبل قدميها للترجل من السيارة. وقفت تأخذ نفساً عميقاً، وكأنها تعود إلى الحياة من جديد بنفحة الهواء هذه.
بدأت بالسير بين أزقة قريتها… فرحة انتظار لقاء بيتها أعمتها عن رؤية حجم الدمار الذي لحق بالقرية، والبيوت المهدمة التي تحولت إلى أطنان من التراب, وعناصر وحدات حماية الشعب الكردية بلباسهم العسكري، الذين انتشروا في كل مكان من القرية.
وخلال سيرها باتجاه البيت، كانت الأم قد أخرجت مفتاح باب البيت الرئيسي. وكانت تقول لبناتها: هل تصدقون أن مفتاح بيتنا ظلّ مرافقاً لي طوال هذه المدة لأنني كنت متأكدة أننا سنعود إلى بيتنا.
ما كادت الأم تنهي جملتها حتى تجمدت وابنتاها، لم ينطقن بكلمة، حتى صرخت سماح بكل بقوة: أين بيتنا؟ أين جدران غرفتنا الطينية التي ملأناها بالصور؟ أين دفتر أشعاري؟
التفتت سماح إلى أمها التي كانت تحمل المفتاح، وتتهيأ لفتح باب كومة تراب كان يسمى يوماً بيتاً.