أرث صدام مستمر
بقلم : عمار الشابندر – بغداد –
بعد آمال راودتني طوال حياتي ، وجدت نفسي في الشتاء الماضي أسوق نحو قلب الأرض العراقية لأحقق حلمي الأزلي : العودة إلى مسقط رأسي بغداد .
لقد كانت السفرة مثل السير أثناء النوم. الصور تداعت في رأسي بسرعة الضوء ، فالصور السوداء للتعذيب و الخوف ،و الحرب والدمار قد اختلطت مع الصور المشرقة لعراق جديد محرر يحتفل به النساء والرجال .
لقد قدت سيارتي عبر بغداد السريالية في الأيام الأولى لفوضى الحرب . لقد غطت التظاهرات العفوية الشوارع . الناس تهتف " الموت لصدام " والجموع تحيي قوات التحالف كالأبطال . الأرامل والأيتام الذين منعوا من إقامة المآتم أيام صدام ، كانوا في الشوارع يبكون على أحبتهم الذين فقدوهم من 20 سنة . وبإحساس خاطئ بالحرية, كان الناس يسوقون سياراتهم مثل المجانين ضاربين عرض الحائط كل قواعد المرور ، ومئات من الناس ينهبون المباني فرحين. سطحياً كان كل شيء ، يبدو كما تصورته ، لكن بعد مرور عدة اشهر عليّ في بغداد ، أدركت بشكل بطيء وعلى مستوى أعمق ، انه العراق الذي لم اعرفه ولم أتصوره .
بعد سنوات من تنظيم الحملات من اجل قضية حرية العراق ، اعتقدت إنني عرفت المجتمع العراقي ، كما اعتقد ذلك كل زملائي في المنفى . لقد كانت لنا صورة عن المجتمع العراقي كونه مقسم إلى جيلين ، جيلنا الأقدم ، و الجيل الرجعي ، الذي تشرب مبادئ البعث ومصاب بمرض اللاديمقراطية والذي كان يقاوم قيم الحرية والمساواة . واعتقدنا أيضا بوجود جيل شاب مفعم بالحيوية والنشاط ويرى المستقبل افضل واكثر إنتاجاً .
إلا أن الحقيقة كانت اكثر تعقيداً ، وسيكون نقلها اكثر صعوبة .
قليل منا ممن كانوا في الشتات قد أدركوا أن عملية عميقة وبطيئة هي التي غيرت العراق تغييرا جوهريا .لم نكن نرى أن النظام البعثي قد عمل ولأكثر من ثلاث عقود من الزمن على تحطيم التقاليد والقيم والعادات للمجتمع العراقي .لقد وجدنا في صيف 2003ان كل ركائز المجتمع العراقي قد نظمت لخدمة وإدامة مواقع أولئك الذين كانوا في السلطة .
إن سقوط النظام لم يجردهم إلا من القليل من امتيازاتهم ومواقعهم .لقد اتبع حزب البعث طريقة ذات أربع اتجاهات لتغيير مؤسسات البلد وجعلها في خدمته .
وقد خلق ابتداء بركة من الموارد البشرية الموالية له حيث قام بعملية تمدين مصطنعة وذلك بتجنيد الشباب الفقير وغير المتعلم ومعظمهم من القرى الواقعة في غرب العراق وجعلهم يخدمون في القطاعات الحكومية المهمة خاصة في الجيش والأمن .وقادت هذه الخطوة إلى تركيز قوة الدولة بأيدي أقلية طيعة وممتنة لحصولها على المركز الجديد تريد الحفاظ على امتيازاتها مهما كلف ذلك من ثمن .
والأمر الثاني هو أن الاقتصاد العراقي صار تحت سيطرة النظام من خلال هدم منظم للمجتمع الاقتصادي التقليدي .فقد تم تأميم بعض مفاصل الاقتصاد الناجحة وبعد إنجاز ذلك,تم اتهام بعض التجار من الدرجة الوسطى بأنهم مجرمون وتمت مصادرة أموالهم. كل تلك الموجودات التي هي الآن ملك للدولة خُصخِصت في حينه و بيعت لأفراد عائلة صدام والموالين لهم بأسعار رخيصة جدا .ونتيجة لذلك صار كل الاقتصاد محتكر ومحمي من قبل الدولة ويسيطر عليه أعوان النظام سيطرة تامة .
الخطوة الثالثة هي السيطرة على التعليم من خلال سلسلة من الإجراءات .أولها أن طلبة المدارس الثانوية الذين يكون أولياء أمورهم "أصدقاء الرئيس "أو من أبطال "أم المعارك"أو من أعضاء الفروع العسكرية المفضلة مثل قوات الحرس الجمهوري الخاص فانه يضاف لهم 20%على درجات الأمتحانات وعلى هذا فان القبول في الكليات المهمة مثل الكلية الطبية قد يتطلب معدل اكثر من 100% فلا يدخلها سوى أعوان النظام.
إضافة لذلك فان القبول في بعض الكليات مثل كلية العلوم السياسية ومعهد المعلمين قد اقتصر على المنتمين لحزب البعث فقط .أما المؤسسات التعليمية المميزة مثل جامعة صدام فقد فتحت فقط لأعوان النظام و عوائلهم.
الأمر الرابع والأخير هو الاضطهاد الوحشي والعقاب الجماعي لكل الأعداء المحتملين, فقد تم إبعاد المشكوك فيهم من الأكراد و الشيعة من وظائفهم الحكومية بشكل قسري ومنظم و إحلال الموالين للنظام بدلهم خاصة من العرب السنة ، إضافة لذلك فقد تم حرمان المشكوك فيهم من الكثير من الحقوق والامتيازات مثل رواتبهم التقاعدية ومن البطاقة التموينية ومن حق التملك أيضا .
وكانت النتيجة بعد ثلاثين عاماً – هي خلق مجتمع مجزأ على أسس الطبقات الاجتماعية وحسب العرق والمذهب والمنطقة . أن الأقلية من أصحاب الامتيازات قد حصلت على التعليم الجيد ، وعلى موارد مالية كبيرة ووظائف خاصة وعامة بأجور عالية بينما لم تحصل الأغلبية المحرومة والتي طال اضطهادها إلا على التعليم القليل وعلى ما يسد حاجتها للعيش .
لقد عدت مع الكثير من زملائي من المنفى للمساعدة في بناء العراق الجديد ، لكننا ندرك اليوم إننا نواجه نخبة محصنة لم تؤثر عليهم الحرب . لعل نظام صدام قد ذهب وذهبت معه قواته الوحشية ، العسكرية والأمنية ، إلا أن أعوانه ما زالوا موجودين من خلال مواقعهم المميزة و المتنفذة في المجتمع .
الآن ، وأنا أغادر العراق للعودة إلى دياري في لندن ، فان صور الدمار و اللاعدالة تملأ مخيلتي ثانية .
إنني أتساءل متى وكيف سيحرر العراق؟
عمار الشابندر : عالم اجتماع من لندن . ولد في العراق وعاش في المنفى 30 سنة . لقد عمل في بغداد مع المعهد العراقي منذ نهاية الحرب وهو في طريقه للعودة إلى لندن في أكتوبر القادم.