المقبرة العراقية تتطهر من أشباح الحرب
المدفن المقدس ُيرّحب بتقلص العمل
المقبرة العراقية تتطهر من أشباح الحرب
المدفن المقدس ُيرّحب بتقلص العمل
كانت السنوات الست الأخيرة مشحونة بالعمل بصورة ملحوظة بالنسبة لمتعهدي دفن الموتى. فقد توسعت مقابرهم المترامية الاطراف والمغطاة بالرمال – أكبرمقبرة في العالم- بشكل ثابت لتضم رفات عشرات الآلاف من ضحايا الصراع العراقي. وقد كانت المقابر التي تبدو كمتاهة بلا نهاية مسرحا للصراع بين المليشيا الشيعية والقطعات الاميركية حيث شهدت بضع معارك بينهم.
يقول الدفان حيدر جبار أبو صبيح " تاتي الثلاجة من وزارة الصحة لتجلب الجثث حيث يتراوح عدد الجثث يوميا مابين 200-250"..." ويتم التعرف على الجثث عن طريق الارقام فقط ".
ويعتقد ان عمر مقبرة النجف يبلغ مالايقل عن 1300 عام. حيث تصل مساحتها الى 12 كيلومترا مربعا ، وقد بدات المقابر في اطراف المقبرة بالامتزاج بالصحراء المجاورة.
اما بالنسبة للحدود الفعلية والوهمية فقد تداخلتا ها هنا. فالحياة تعانق الموت ، والمدينة تعانق البرية ، والقانون يلغى. هذا وقد دأب الفارون من وجه العدالة والمضطهدون من قبل الحكومة على اتخاذ المقبرة كملاذ لهم بين مجموعة القبور المنتشرة فيها.
وُيعّد ُقرب المقبرة من ضريح الأمام علي ذو القبة الذهبية عاملا ساهم في حجمها الحالي – حيث يعد الامام علي الذي كان رفيقا للنبي احد الأئمة المقدسين لابناء الطائفة الشيعية. وقد تصادف مقتل الامام علي الذي اتسم بالعنف على يد منافسيه السياسيين مع انبثاق الحركة الانفصالية مابين الشيعة والسنة في الاسلام والذي كان الوقود الذي حرّك الصراع الطائفي الاخير.
ويدفن في النجف المسلمون على المذهب الشيعي من جميع انحاء العالم، حيث يؤمن العديد منهم بان الدفن في نفس التربة التي دفن فيها الامام علي ُيعّجل دخول الروح الى الجنة.
الى ذلك فان متعهدي الموتى في النجف يعتبرون انفسهم اوصياء على مهنة ُيحسدون عليها. وبالرغم من حالة العنف التي عطلت عملهم ، فانهم يعبرون عن امتنانهم للراحة التي حظيوا بها بسبب ذلك.
يصر ُمتعهدوا الاموات بان عملهم مطلوب جدا ، حيث تتسع مهمتهم لتشمل من هم على الارض كما هو الحال مع من هم أسفلها . يقول محمد كاظم حسناوي ، احد متعهدي الاموات في الاربعينات من العمر " يعتمد نجاحنا على توفير افضل الخدمات لاقارب الموتى".
ُيصّنف حسناوي (حفار قبور سابق)بينما كان يقف وسط صفوف القبور ، الامانة كسمة أساسية في المهنة. حيث يقول " لاتستطيع العوائل التي تسكن أماكن بعيدة في البلاد من زيارة قبورهم بصورة منتظمة"..." عليهم وضع ثقتهم بالدفان الخاص بهم للحفاظ عليها وصيانتها ".
المنافسة المهنية
يتم توارث مهنة تعهد الاموات في مقبرة النجف من الآباء الى الابناء عادة. فالعشائر المحلية مثل عشيرة ابو صبيح تهيمن على هذه المهنة. يقول نجاح ابو صبيح احد متعهدي الاموات الذين يحبون مزج كلامهم بالعبارات الانكليزية، بان المهنة " ُمشّرفة جداً لأنها ُتكرم الميت ".
ُتعّد أجرة العمل وافية جداً ، حيث ُتكلف عملية الدفن مابين 200،000 -300،00 دينار عراقي (مايعادل 180-250) دولاراً ، حيث تتضمن هذه الاجرة شاهد القبر واجرة حفار القبور.
على عكس حفاري القبور الذين عادة مايتم استئجارهم كعمال عاديين ، فان الخبرة في مهنة متعهدي الاموات ُتعّد من النقاط المفضلة ، فالمتعهد الجيد غالباً ما ُيسّلم مسؤولية الاعتناء بأموات عشيرة كاملة.
كما يمتلك المتعهد الجيد علاقات اجتماعية قوية مع العوائل من زبائنه في المناطق النائية من العراق، وعليه أن يقوم بزيارتهم لحضور مراسيم الدفن عند تمكنه من ذلك. كما انه يجب ان يتقن النواحي القانونية والامور التي تتعلق بالنقل والتموين الخاصة بالجنائز- مثل تهيئة الطعام والاقامة للمجاميع الكبيرة الذين يقطعون مسافات نائية لحضور مراسيم دفن أقربائهم.
ُيعّد محمد يوسف واحد من اولئك الذين دخلوا المهنة بالرغم من انه لم يتوارثها. انتقل محمد – المصري الجنسية- الى العراق في الثمانيات اثناء الحرب مع ايران.
يقول محمد: " عندما رأيت توابيت الموتى تدخل الى النجف في ذلك الوقت ، أدركت بانني ساتمكن من ايجاد عمل في مقبرة المدينة " . الا ان محمد واجه مقاومة من قبل متعهدي الموتى الاصليين عندما حاول ان يثبت نفسه في المهنة لدى عمله كحفار قبور في بادىء الامر.
في النهاية تمكن محمد من النجاح بمساعدة مرشده . حيث قال " امتلك الآن علاقات ممتازة مع الناس ضمن هذا المجتمع ".
مرثيات أيام الحرب
لايتمتع متعهدي الموتى بالاحترام من قبل الكل. فالبعض في النجف ينظر اليهم نظرة احتقار ، ويعتقدون بـأنهم آثروا طريق إراقة الدماء والاحتيال.
ضمن هذا الاطار يقول ابو ليث وهو سائق تكسي " لقد اغتنوا بسبب الحرب "..." انهم يعيشون على مصائبنا ".
ضمن هذا السياق يقول منهل عبد الحسين ، وهو موظف حكومي في اواخر العشرينات ، بان عمال المقبرة يغشون الزبائن في بعض الاحيان حيث ان بعض الناس لايتمكنون من التاكد من محتويات كل كفن ، " قد يستلمون اجوراً لقاء نقل أحد الأكفان من قبر إلى آخر ، إلا إنهم لايفعلون ما ُيطلب منهم ".
من جهته ، يقول حسناوي وهو متعهد موتى بانه متفاجىء لسماع مثل هذه الاتهامات " هناك نفر ضال في كل مهنة ممن يشوهون سمعتها ، غير ان ذلك لايعني تشويه سمعة البقية ".
اما زميله ، مجيد حاتم ابو صبيح، وهو رجل ذو بشرة سمراء كان يقرأ مجلة ثقافية ، فينفي الرأي القائل بان إراقة الدماء هو عامل إيجابي في العمل.
حيث ُيدلي بالقول " يفضل ُمتعهدي الموتى الأمن على المال ". ويعتبر مجيد انخفاض الطلب على خدمة ُمتعهدي الموتى كفأل جيد بالنسبة للامن في العراق.
الى ذلك يقول يوسف بانه سعيد لانه لايقوم بدفن ضحايا العنف . وأسترسل ُمتخذا اللكنة النجفية رغم وضوح لهجته المصرية قائلاً " نشكر الله على رجوع الوضع الى طبيعته ، فنحن ندفن الان الموتى من كبار السن وضحايا الحوادث".
ويواصل القول " لقد ساعدتني الحرب في إيجاد عمل في المقبرة. الا انني لا أتمنى أن يجد شخص آخر فرصة عمل لنفس السبب".
تفتح شواهد القبور والكتابات التي تنقش عليها نافذة اخرى على ثلاثة عقود دامية في التاريخ العراقي. يرقد ضحايا الحرب مع ايران، حرب الخليج، انتفاضة الشيعة ضد صدام حسين وغزو العراق عام 2003 جنبا الى جنب. هذا وقد تم وضع القبور المجهولة والتي وجدت إبان الصراع الطائفي الاخير في ُملحق يقع في الشمال الغربي من المقبرة.
تصف شواهد القبور هؤلاء الذين لقوا حتفهم اثناء الحرب بالشهداء أو ضحايا الغدر. ويقوم نجاح أبو صبيح بالأعتناء بنظافة المقبرة ويقول بان الشواهد التي تحمل مثل هكذا عناوين قلت في الفترة الحالية حيث تقلصت فترة العنف التي تميزت بكونها الأكثر سوءً من نوعها.
وعلى الرغم من ذلك ، فان أبو صبيح يدرك بان هذا الصراع او أي صراع من نوع آخر ُيعّد السبب الرئيسي بنسبه 60% الكامن وراء إقامة ملايين القبور في المقبرة. ويذكر ان المقبرة تحمل اسم وادي السلام.
فارس حرام – متدرب في معهد صحافة الحرب والسلام – النجف