أهالي الحلبجة يعانون الاهمال والاستغلال

الناجون من هجوم صدام الكيمياوي قبل عقدين من الزمن يشعرون بخذلان السلطات الكردية لهم

أهالي الحلبجة يعانون الاهمال والاستغلال

الناجون من هجوم صدام الكيمياوي قبل عقدين من الزمن يشعرون بخذلان السلطات الكردية لهم

Monday, 21 March, 2011

تياري راث- العراق

21 آذار 2011

وانت تدخل الى حلبجة، هناك بضعة أدلة حول الألم والدمار اللذين عانت منهما هذه المدينة الكردية خلال العقدين الماضيين.

هناك ملعب صغير لكرة القدم (غير منتهي)، ومستشفى على بعد مسافة (مع نقص في الكادر الطبي) ونصب تذكاري أثار الكثير من الجدال يبلغ علوه 100 قدم مع العلم الكردي يرفرف فوق قمته. وتقع المدينة عند أقدام سلسلة من جبال وعرة مذهلة التي تمتد الى دولة ايران المجاورة.

قبل ثلاثة وعشرين سنة أمطرت السماء الجحيم على هذه المدينة. غطت طائرات البعث المدينة باسلحة كيمياوية – من ضمنها غاز الخردل وغاز الاعصاب القاتل وغاز سارين- مما أدى الى مقتل حوالي 5000 شخص و إصابة 10,000 آخرين.

لم تكن حلبجة المدينة الأولى التي قصفها نظام صدام حسين بالأسلحة الكيمياوية، كما انها لم تكن الأخيرة. غير انه كان الهجوم الكيمياوي الأكبر حجماً على السكان المدنيين، حيث خلف إرثاً من الموت والفقر والمرض والحزن الذي لم يزل يطارد السكان حتى يومنا هذا. أصبحت الحلبجة بعد الهجوم رمزاً لفظائع النظام البعثي ضد الأقلية الكردية في العراق.

زرت حلبجة لأول مرة في خريف 2005 مع زوجي المستقبلي مريوان، الذي ولد وترعرع هنا مع أخواته واخوانه العشرة. ومثل معظم الأسر، يعيش اقاربه في منزل متواضع متكون من أربع غرف، مع مطبخ وحمام منفصلين، وباحة حديقة صغيرة تتناثر فيها أشجار الفاكهة.

رمان الحلبجة الشهير ينضج في ظل انخفاض درجات الحرارة في فصل الخريف، وتنتشر أشجار الرمان على طول التلال في ضواحي المدينة. في زيارتي الأولى سافرنا عبر حقول من أشجار الفاكهة والى أعالي الجبال بالقرب من الحدود الايرانية.

كنت ارغب في المشي بين الجبال وتسلقها، لكن مريوان رفض الفكرة باعتباها غير آمنة. ولأن حلبجة مدينة حدودية ، فقد كانت كثيرا ما تقع على خط النار خلال الحرب العراقية الايرانية، وجبالها مزروعة بالالغام الأرضية. وقد تم تنفيذ الهجوم في ذروة الصراع حين كانت القوات الايرانية قد سيطرت على المدينة.

جعل الهجوم من حلبجة مدينة يذاع صيتها، وهو ليس بأمر يريد الناس ان يتذكرونه. يتحدث الناجون الى الاعلام، وخصوصاً الاعلام الغربي، وهم يأملون بأن التغطية الإعلامية قد تؤدي الى تحسين الخدمات الصحية وتوفير خدمات أفضل. لكن يتردد الضحايا، بشكل شخصي خاص، في تذكر يوم 16 آذار من عام 1988.   

تمكن الناس من النجاة بعزيمتهم وإصرارهم، من خلال فراراهم في جوف الليل عبر الجبال الى ايران، وبحثهم عن مأوى في مخيمات اللاجئين، وألا يحدثوا أية مشاكل حين تم منحهم "العفو" وتم السماح لهم بالعودة بعد ثلاثة سنوات.

تحدثت عائلة زوجي مرة واحدة معي حول آثار ما بعد الهجوم الذي أدى الى مقتل العديد من أقاربه. لكنهم لا يتكلمون حول واقع القصف نفسه، مثلهم في ذلك مثل الكثير من أصدقائهم وجيرانهم وأقاربهم. الصور المروعة للهجوم، التي أتخذ معظمها من قبل صحفيين ايرانيين، تظهر جثث مدنيين حاولوا الفرار بحثاً عن ملجأ تنتشر في الشوارع والسيارات والبيوت، وأفواههم فاغرة وعيونهم منتفخة. الكثير من الموتى هم من الأطفال.

آنذاك كانت حماتي حاملا في شهرها الثامن ، ووصفت تسلقها الجبال مع الآلاف من الناس الذين فروا بعد الهجوم وسماعها لصرخات النساء وهن يولدن. كان الناجون يختبأون في الظلام وهم يخشون من ان إحداث أية جلبة قد يلفت انتباه الطائرات التي كانت تحلق فوق الجبال وهي مستعدة لشن الهجوم. كان لديها تسعة أطفال في ذلك الوقت، والبعض منهم ومن ضمنهم زوجي قد تفرقوا لفترة وجيزة أثناء حالة الفوضى عن أبويهم.

تمت معالجة الناجين في المخيمات الايرانية لأمراض تراوحت بين مشاكل في الجهاز التنفسي وظهور البثور الى النمو غير الطبيعي. وأفاد الفريق الطبي البريطاني الذي قام بدراسة حلبجة في التسعينيات بان الناجين لا يزالون يواجهون مشاكل صحية كبيرة، بما في ذلك معدلات عالية من السرطان والاجهاض وامراض في الجهاز التنفسي.

وباستثناء قلة قليلة من الناشطين في حلبجة فان عددا قليلاً من الناس يتكلمون حول هذه الامراض. وصدمت اخت زوجي، التي كانت قد أصيبت في الهجوم والتي ولد ابنها في العام الماضي مع وجود العديد من مشاكل صحية، لمعرفتها ان العديد من أطفال الضحايا يعانون، حتى اليوم، من مشاكل خلقية أثناء الولادة. عاش ابنها لمدة تسعة أشهر، ومن ضمنها 35 يوماً على دعم الأجهزة الطبية، دعم الحياة، قبل ان يموت بتوقف القلب والرئة.

وبعد هذ، عرفنا بقصة مأساوية اخرى: خسر صديق مقرب من العائلة معركته مع السرطان وسيتم دفنه في الليلة نفسها. كان عمره 28 عاماً، وقبل ذلك بأشهر قليلة كان أحد أقاربه في العشرينيات من عمره قد مات بالسرطان أيضاً.

يتلقى الضحايا رعاية صحية بدائية في مدن كردستان العراق، أو اذا كانت لديهم موارد مالية ويتم منحهم التأشيرة، يذهبون الى البلدان المجاورة. الرعاية الطبية في مدينة حلبجة أمر يدعو الى الشفقة: هناك بضعة من الأطباء، الأمر الذي يجعل الكثيرين يعتمدون على الممرضين لعلاض أمراضهم.

لا يأخذ الأطباء في جميع أنحاء كردستان تاريخ المرضى أو يتحدثون الى المرضى حول  الآثار الصحية للهجوم الكيمياوي، ربما لانهم لايستطيعون المساعدة كثيرا على اي حال، نظرا لمحدودية فرص حصولهم على العلاج. وباستثناء الدراسات التي جرت في التسعينيات، فان لا أحد يتابع الحالات الطبية. ومع ذلك يتساءل الناس: هل تحدث هذه الانماط المقلقة بسب الهجوم؟

لقد عانى الناجون وأطفالهم بصمت لسنوات قبل يصبوا جام غضبهم على السلطات الكردية. ويتهم المعارضون المسؤولين الأكراد بإستغلال قضية حلبجة – بما في ذلك دعوة شخصيات ووفود أجنبية – وذلك في وقت يهملون فيه حاجات المدينة. وقد أشعلت مظاهرات معادية للحكومة في يوم ذكرى الهجوم قبل خمس سنوات النار في النصب التذكاري. كان النصب قد تحول الى رمز تسيس الحكومة لحلبجة وإهمال حاجاتها والخدمات فيها.

وأعاد المسؤولون تشيد النصب التذكاري بسرعة، لكن قرر هذه السنة ان يعقد الاحتفال في ملعب لكرة القدم تم بناؤه حديثاً في ضواحي المدينة. وقد حضر الاحتفال المئات من الموظفين الحكوميين والمسؤولين وأطفال المدارس وبعض الضحايا. وقد توقف الحفل لفترة وجيزة حين قذف أحد الناجين بساقه الاصطناعية باتجاه رئيس وزراء حكومة أقليم كردستان صارخاً "أنتم كلكم كذابون! أين حقوقنا؟"

وفي الوقت نفسه تدفق ما لايقل عن 1000 شخص الى الشوارع في مركز حلبجة مطالبين الحكومة بتوفير المزيد من الدعم والخدمات للمدينة.

يستعر الغضب باستمرار تحت السطح، وهو ليس موجها فقط نحو السلطات المحلية. يرى الكثيرون بان الشركات الدولية التي قامت بإمداد النظام العراقي بالقنابل الكيمياوية ينبغي ان تقوم بتعويض الضحايا، وقضى المحامون سنوات طويلة وهم يحاولون جمع ألادلة لأخذ هذه الشركات الى المحاكم.

أيدت حلبجة بحماس غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة، وبعد رفع الامم المتحدة للحصار الاقتصادي أزدهر الاقتصاد. ولكن بالرغم من كل هذا فالمدينة فقيرة، ولم تحدث عشرات الملايين من الدولارات خصصت لإعادة أعمار المدينة الكثير من الفرق. فمن بين 70,000 و 80,000 شخص كانوا يعيشون في حلبجة في الماضي، يعتقد الآن بان نصف هذا العدد يعيشون الآن هنا.

لا يتلقى الناجون مساعدات طبية او مالية. هناك قصص مؤلمة للضحايا الذين فقدوا العشرات من أقاربهم وهم يعيشون في ظروف مزرية.

يبدو وكأن المدينة قد ألقي بها الى زمن آخر. وبدأت الحكومة ومنذ مظاهرات وأعمال شغب في عام 2006 بتبليط بعض الطرق الترابية، كما وهناك بناء لجامعة ، ولكن مثل بقية مناطق العراق فان القليل قد تحسن.

وبعد مرور 23 سنة فان بعض المنازل فارغة أو تتمدد فوق كومة من الانقاض. يرتاد الطلاب المدارس في نوابات متعاقبة. ولا تزال الطاقة الكهربائية متقطعة. تقضي العوائل ساعات في الظلام وهي تشكو من السياسة. وبإستثناء بعض مقاهي الانترنت وبضعة جبال خالية من الألغام، لا توجد أماكن ترفيه وتسلية، وتلعب العوائل بالثلج في الشتاء وتقوم بالنزهات في أواخر الربيع وأوائل الخريف.

وعلى الرغم من التحديات فان حلبجة قد حققت بعض الخطوات. ويعتبر جيل الشباب الذين نجوا من الهجوم الكيمياوي الأفضل تعليماً في تاريخ المدينة، والكثير منهم قد حصل على شهادات جامعية. ويعتبر هذا انجازا هائلاً اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار بان الجيل الأكبر سنا عملوا في الزراعة  حين كانوا أطفالاً وهم أمييون. وفي حين يهاجر الشباب بأعداد كبيرة بحثاً عن فرص أفضل في العمل والوظائف، فان الكثير من النساء – اللواتي كانوا تقليدياً يظلن في البيت أو يعملن في المزارع- متعلمات ولهن وظائف.

وبهذا المعنى، هناك بصيص من الأمل لمستقبل حلبجة. انهم لايملكون الموارد اللازمة لبناء البنية التحتية والمشافي، أو لعلاج المرضى واجراء بحوث بشأن الآثار الطويلة الأمد للهجوم الكيمياوي. لكن ما يملكونه هو القدرة على البقاء، وعلى الإصرار رغم الصعوبات. ما يحدد هوية حلبجة اليوم هو هذا العزم الأكيد على المضي قدما نحو مستقبل أفضل، والتغلب على الأرث المأساوي.

 

تياري راث مديرة التحرير في معهد صحافة الحرب والسلام في العراق.

Iraq
Regime
Frontline Updates
Support local journalists