كذبة الأول من نيسان كادت تودي بحياتنا
الكاتب: بانة ديب
كذبة الأول من نيسان كادت تودي بحياتنا
الكاتب: بانة ديب
الأول من نيسان/أبريل 2015, السابعة صباحاً, موعد الاستيقاظ اليومي للذهاب إلى ما يسمى العمل. نعم لم أترك عملي في أحد المصارف الحكومية، التي ما زالت تقدم خدماتها للمواطنين، وإن كان بشق الأنفس. لم أملك الشجاعة لاتخاذ قرار الرحيل، رغم العروض الكثيرة التي تلقيتها من الخارج، ربما لأنني لا أريد الابتعاد عن البلاد, هكذا بكل رومانسية وبساطة.
في العمل نحن ملزمون كموظفين أن نكون على مكاتبنا عند الثامنة والنصف صباحاً، ننتظر المراجعين, وأي مراجعين. تظنهم للوهلة الأولى عناصر من فرع أمن الدولة أو الشرطة العسكرية, يدخلون عليك بلباس عسكري كامل, يتكلمون معك بلهجة آمرة توحي لك أنهم بمراكز قيادية هامة أو عساكر للدفاع الوطني ممن يملؤون شوارع المدينة مع أسلحتهم هنا وهناك, لكن خلو اكتافهم من كلاشينكوف أو بندقية روسية، يشي لك أنهم مجرد مدنيين كحالك تماماً، اتخذوا من اللباس العسكري زياً يومياً، إمّا ترهيباً أو إعلانا عن مساندتهم لجيشهم الباسل البطل.
أنا أخو الشهيد فلان، هكذا يبدأ حديثه معتبراً أن مجرد وفاة أخيه في إحدى المعارك الدائرة هنا أو هناك، تعطيه أفضلية ليتجاوز سلسلة طويلة من المنتظرين، بينهم مواطن مسكين انتظر ساعة كاملة، لكنه تنازل عن دوره طواعية أمام هذه الكلمة السحرية التي تفتح جميع الأبواب الموصدة. ألبّي طلبه بصمت تام وأنا أقول في ذهني: وهل أخوك هو الوحيد الذي توفي على الجبهات؟؟
الجميع يريد قبض تعويض عن أخيه الشهيد، أو كما تسمّى هنا بين موظفي البنك “قبض ثمن دمه”. مشاجرات كثيرة تحصل بين الأخوة أو الأب والأم في حال كان المبلغ ناقصاً، أو قبض أحد ذوي القتيل المبلغ بدلاً عن أبيه بموجب ورقة توكيل منحت له، ليتفاجأ باقي الاخوة بهذا الأمر ويصبوا جام غضبهم علينا. مع أن تسليم المبلغ يجري وفق أوراق رسمية مصدقة وممهورة. ينسون كل شيء مقابل مئتي ألف ليرة، لا تكفي لسد حاجات أسرة مكونة من خمسة أشخاص لبضعة أشهر، ينسون حتى دماء أخيهم الشهيد الذي لا يتجاوز سعره سوى بضعة مئات من الآلاف، لا يراها من هم في الدفاع الوطني بل تقتصر على عناصر الجيش الباسل.
إنه الأول من نيسان/إبريل، تمر الساعات ثقيلة لا تخلو من اتصال لتسهيل أمر فلان، وورقة لتسريع أمر فلان آخر، وكالعادة يجمعهم معا بدلة عسكرية وكلمة سحرية باتت معروفة للجميع. ما إن حلّت الساعة الثالثة حتى سارعت للخروج الى البيت، بادرتني صديقتي بالقول: لا يوجد انصراف اليوم لدينا عمل اضافي. اعتقدت انها كذبة الأول من نيسان/أبريل، التي لم نعد بحاجة لها لكثرة الكذب والنفاق الذي نعيش فيه. نعمل ضمن مؤسسات تزخر بصور من يقال عنه القائد الخالد، وإلى جانبه القائد الأمل، ولا نترك فرصة إلّا ونقذفهم بأقذر الشتائم بيننا وبين أنفسنا. دون نسيان توجهنا لانتخاب القائد الأمل الباقي لنا، لتدمير البلاد في الثالث من حزيران/يونيو عام 2014. وجرح أصابعنا ليسيل الدم على الورقة الانتخابية، في محاولة للمزايدة على بعضنا البعض للتعبير عن مدى حبنا للقائد الذي نكرهه. هنا عرفت المعنى الحقيقي للفصام الذي بات جزءًا لا يتجزأ من حياتنا نحن القاطنون هنا ضمن مناطق سيطرة النظام.
لم يكن العمل الإضافي يتعلق بأوراق رسمية، أو تسهيل معاملات خاصة بالمراجعين. كانت مهمتنا التجمع ضمن باصات للنقل الداخلي، ساقونا إلى بنك الدم في المحافظة، للتبرع مرغمين ببعض ما يجري في عروقنا، إن بقي منه شيء لرفد برادات هذا المسلخ الذي لا يعترف إلّا بمصابي الجيش الباسل، الذين يمرّون حالياً بموقف حرج. خاصة مع تحرير مدينة ادلب في الثامن والعشرين من آذار/ مارس 2015 ووقوع العديد منهم في الاشتباكات مع مقاتلي المعارضة، وحاجتهم للكثير من الدماء لإنقاذ ما يمكن انقاذه منهم.
نعم لقد تبرعت مرغمة لمن يقومون بقتل إخوتي هناك. أتتني فتاة من إحدى الفرق الشبابية التطوعية لتعطيني رقماً، وكالعادة وجدتها ترتدي زياً عسكرياً فيه بعض ملامح الأنوثة والإغراء. وزني الضئيل جعلهم يكتفون بالقليل من دمي، بعدها تم الافراج عني لأخرج وانتظر الباص الذي بات الإنحشار فيه نصراً مؤزراً، بعد الاكتظاظ السكاني الذي بتنا نعاني منه هنا، نظرا لنزوح الكثير من السوريين لا سيما من محافظة حلب.
في الباص لا يختلف الوضع كثيرا عن العمل. السائق ونصف الركاب تقريبا يرتدون الزي العسكري نفسه، والراديو تصدح بأغاني حب القائد وافتدائه بأرواحنا تصم أذنيك. يتوقف الباص في منتصف الطريق ليصعد معنا مسلحون بزيهم الكامل من قوات الدفاع الوطني، دون أن يدفعوا شيئاً، فالمواصلات العامة مجانية لهم، لكن الازدحام الشديد يجعل فوهات بنادقهم تصيبنا هنا وهناك. نتلقى تلك الضربات صامتين ما بيدنا حيلة، فأي حركة احتجاجية من قبلك في وجههم يمكن ان تعرضك لتكون أحد الباحثين عن قليل من الدم في المركز الذي خرجت منه دون أن يلبّي طلبك أحد.
وصلت بعد جهد وزمن طويل نسبيا الى الموقف الذي أقصده. سيارة مسرعة بزجاج غامق اللون لا يتيح لك مشاهدة من بداخلها، وصور للنسر السوري والقائد الأمل على مقدمتها، كادت أن تصطدم بالباص، فانحرفت عن مسارها وانتهت على الرصيف. ولولا ألطاف القدر لدهست سيدة مسنّة، اصفرّ وجهها من هول المشهد. لم يكتفِ سائق السيارة بالترجل منها، والتوجه بالسباب والشتائم إلى سائق الباص والمارة وحتى السيدة المسنّة نفسها، من دون ان يتجرّأ أحد على أن يقول له أنه المخطئ في كل ما حدث. بل هدّد سائق الباص ذو الزي العسكري أن أي عطب أو خدش يصيب سيارته لن يكفيه مقابله أقل من سجن جميع ركاب الباص ومعهم السائق. ولولا تدخل أحد عناصر الدفاع الوطني، الذي كاد أن يقلع أعيننا بفوهة بندقيته، وتعرّفه على من يهددنا ويتوعدنا، وإقناعه أن ما حصل هي مزحة الأول من نيسان/أبريل من قبل سائق الباص، الذي وللمناسبة اعترف بذنبه ومزحته الثقيلة تلك، كنا الآن جميعاً وراء الشمس دون أن يكون لنا أدنى ذنب في ما حدث.