هاجس الخوف ُيكبت ُمحبي الأغاني في الناصرية
صمتت حناجر الغناء المعروفة في الناصرية بخناجر التهديد والوعيد.
هاجس الخوف ُيكبت ُمحبي الأغاني في الناصرية
صمتت حناجر الغناء المعروفة في الناصرية بخناجر التهديد والوعيد.
في مدينة كالناصرية التي تشتهر بالعديد من الموسيقيين ُيعتبر جاسم الأسمر أحد أفضل الموسيقيين فيها الذي قام بتأليف كلمات ووضع ألحان لأغاني عديدة شاع الكثيرمنها بحناجرمغنين آخرين أكثر شهرة ً منه.
وقد أصبح المقهى الذي يعمل فيه ُملتقى المغنين الذين أرعبتهم المليشيات المتشددة وضّيقت عليهم الخناق بحجة إن ما يزاولونه ُمنافي للقيم الدينية والخلقية.
يقول قاسم أريداح (وهو موسيقار معروف) في إشارة ً منه إلى الوحي الشعري " لا زلنا نحمل ذات الروحية التي جئنا بها ".
ُمضيفاً وهو يضحك " حينما يعكف أحدنا على وضع كلمات أغنية جديدة يبقى ساهراً لا ُيبارح مطرحه طوال الليل كأنما هو في ُعرس ٍجديد يشعر خلاله بالزهو البالغ وبعبق الحياة الأصيلة ، شعوراً لن يجد له من مثيل لا في داخل المقهى ولا في أي مكان ٍ آخر ".
أما أحمد الأمير فهو موسيقار آخر يستذكر كيف كان غناء الأسمر أمام حشود حاضرة تهتز " بجنون ونشوةٍ " كأنها بنشوتها الأيقاعية تجعل النخيل تتأرجح هي الأخرى.
ويسترسل في الكلام قائلا ً: " أبتدأت حفلاته بألحان جميلة لنلقى أنفسنا في اليوم التالي بصدور ُمحمّرة " في إشارة منه إلى العادة المتبعة من قبل الرجال على المذهب الشيعي في لطم صدورهم بضربات خاصة إيقاعية خلال تأديتهم لمراسيم إحتفالية رثائية.
يبلغ الأسمر 60 عاماً لكنه يبدو أقل من ذلك ، ورغم إنه ما يزال متواصلاً مع فنه الموسيقي والغنائي إلا أن نشاطه الفني الفاعل قد تقلص وصار نجمه يأفل.
في أعقاب الإطاحة بصدام حسين في عام 2003 دعت المليشيات الشيعية في الناصرية بقوة إلى أشكال صارمة من الأسلام وتحدث رجال دينها بإحتقار عن الموسيقيين الذين قد أضّلوا طريق الأيمان وانحرفوا عن تعاليم الدين لأقتران أدائهم بمعاقرة الخمر ، وتم إحراق متاجر الخمور وتعرض العديد من المغنين للضرب.
وقد أجبرت التهديدات التي أطلقتها رجال المليشيات آنفة الذكر الأسمر وأقرانه إلى الأختباء والتواري عن الأنظار، فالحفلات بأجوائها المثيرة والساخنة التي كانوا يحيوها أصبحت ممنوعة منعاً باتاً فى الوقت الحالي ، ومن يتجرأ على الغناء عليه أن يؤدي ذلك ضمن فترات متباعدة أو سراً.
وهنا يتسائل الأسمر " هل بإمكانك الغناء على المسرح حيث لا تعلم كم فرداً من جمهور المستمعين يحمل معه سلاحاً أو كم منهم يضمر لك العداء ويريد قتلك ؟! ".
وتجدر الإشارة إلى أن الناصرية كانت تحتل ذات يوم موقع الصدارة العلمانية في جنوب العراق الشيعي ومعقل الشيوعيين سابقاً ، وهي حالياً معقل حزب البعث المحظور، فقد كان لها محطات ثقافية متباينة وبارزة المعالم كما كانت مجالاً رحباً نسبياً لتناول المشروبات الروحية.
ويصف الأسمر المدينة بأنها تفيض غناءً ُمبيناً " لا أحد يعرف عدد المغنين لأن الجميع شيوخاً وشباباً يجيدون الغناء والدندنة " ، ويستطرد القول " منذ أولى نشأتي وأنا أصغي لمرضعة الحي التي كانت تغني ليل نهار إلى الحد الذي يتعذر فيه معرفة ما إذا كانت مسرورة أم حزينة ".
ثم يعود فيقول كان الصوت الجيد مطلباً دائماً من قبل الجميع وكانت ُتقام الأحتفالات الغنائية حتى إبان الأنتقال إلى منزل أو سكن جديد أو ُيستهل الحدث بتلاوة ُمباركة من القرآن الكريم ويؤكد " في كل الأحوال على المؤدي أن يمتلك صوتاً جميلآً ".
في الماضي من الزمن دأب السياسيون على إظهار السخرية من فن الطرب في الناصرية واليوم ُتضّيق المليشيات الخناق على الموسيقيين في الناصرية.
ويسترسل موضحاً " كان ُيطلب منا في ظل الحكم البعثي تمجيد قائده صدام حسين ، ولا ندري ما تريده منا السلطات الحالية ".
ويضيف " الغناء ُيرّوعنا والأحكام التي يضعها عموم رجال الدين ضد إستخدام إحدى الآلات الموسيقية أمراً ُيربكنا فأحدهم ُيحّرم إستخدام الآلات الموسيقية الوترية و آخر لا يسمح بإستخدام الطبول أو آلات النفخ الموسيقية ".
كما يقول الأسمر إنه من الصعب تحديد مدى صرامة وجدية موضوع منع إستخدام الآلات الموسيقية لا سيما إذا ما وجدناها ذاتها ُتستخدم في المناسبات والتراتيل الدينية كما في ذكرى عاشوراء من قبل الشيعة ، ويستدرك ُمتسائلاً " فهل تغير الدين ؟! .. " ، ومتسائلاً من جديد " لماذا كل شيء ممنوع أو إنه من الممكن أن ُيمنع ؟! .. ".
أظهرت المقابلات التي أجريت مع رجال الدين الشيعة في الناصرية وجهات نظر متعارضة إزاء الموسيقيين حيث يُشّدد الشيخ حكيم الصالحي أحد أقطاب رجال الدين الشيعة المعادي للأمريكان نقلاً عن تصريح للسيد مقتدى الصدر " الغناء هو الطريق الذي يوصلنا للشيطان الرجيم والذي يفسد روح الصلاة " .
مؤكدا ً ومستنتجاً " الغناء ممنوع بأمر من الصدر فنحن مجتمع إسلامي وعلينا مراعاة التعاليم الدينية والشرائع الألهية بمعاقبة الآثم ومكافأة التقي ".
أما رجل الدين الشيعي المستقل تحسين البكاء فيقول " َيعتبر معظم علماء الدين إن الغناء حراماً أو أثماً لكنه لا يستوجب القتل ".
ويسهب في شرحه ُمبيناً " في الحقيقة أولئك الذين يأذون المغنين هم من المتطرفين الذين أبتعدوا عن جوهر الرسالة الأسلامية مؤكداً في معرض حديثه على " الأقناع والتوجيه " كوسائل ُيستلزم إتباعها مع المغنين الذين يتحدون المباديء الدينية ".
وقد كان لرجل الدين أحمد الفرطوسي رأياً آخر ُموضحاً من خلاله إنه لم تصدر أية فتوى دينية ضد الغناء أو ضد الآلات الموسيقية.
ُمضيفاً " المتطرفون الجهلة " أستهدفوا المغنين إضافةً إلى إستهدافهم شخصيات عامة أخرى لتحقيق غاية سياسية. كما ُيبين " لا يحق لرجال الدين إضطهاد المغنين وشعراء الأغنية ".
التهديد بإرتكاب أعمال عنف أضطر الكثير من الفنانين و الموسيقيين الأبتعاد عن الأضواء وعن الأنظار والتخلي كلياً عن الفن الذي يمارسونه. ورغم أن المزاولة العملية للفن مسألة لا غبار عليها إلا أن بعض المغنين يعمدون أحياناً إلى عمل وصلاتهم الغنائية في بيوت خاصة حفاظاً على سلامتهم وبضمانة المُضّيف. وكثيراً ما يواصلون غنائهم طوال الليل في أماكن بعيدة خارج المدينة ُيقدّمون خلالها أمسياتهم الغنائية.
وقد أطلق البعض منهم العنان للتجارة أو للدين ، فصديق الأسمر المدعو أحمد يغني في المناسبات أو المراسيم الدينية الشيعية لرثاء فاجعة إستشهاد الأمام علي عليه السلام وأبنائه الحسن والحسين.
كما أطلقت برامج القنوات الفضائية والتلفازية العربية بالكم الموسيقي الهائل لمحتواها المواهب لدى أهالي الناصرية ، ويقول مغني سابق ُيدعى قاسم إن أحلى قصائده الغنائية قد قام بسرقتها الفنانون التجاريون.
ويوضح " في السابق كنا نعرف الأشخاص الذين ينشدون أغانينا لأنهم كانوا يطلبون ُمسبقاً موافقتنا على ذلك بينما أجد أغنيتي اليوم ُتسرق وُتذاع من قبل القنوات الفضائية دون أي رادع ".
ويقول قاسم إنه لا يفضل أن يثير ضجة حول أمر السرقة لأنه ما يزال يخشى رجال المليشيات ، " فهم إذا ما أكتشفوا الأمر سيوسعوني ضرباً ويجبروني على كتابة قصيدة لرئيسهم كما فعلوا في المرة الماضية ".
ُيطالب الفنانون الموسيقيون من الحكومة في الناصرية حمايتهم ليتمكنوا من الظهور علناً ليمارسوا فنهم الغنائي من جديد.
وقد إنحلت نقابة الفنانين المحليين التابعة للحكومة قبل عدة سنوات مضت وصرح رئيسها السابق علي عبد عيد " لم تستطع النقابة منح الحماية اللازمة من أذى مجرمين مجهولين لطالما أتبعوا وسائل شتى وطرق عديدة لإرهاب وتهديد الفنانين العُزّل ".
رئيس نقابة الصحفيين في الناصرية كاظم العبيدي المدعوم من قبل الحكومة يقول: الفنانون هم ضحايا الأضطرابات الكثيرة التي حدثت.
ُمضيفاً " لا يسعنا الحديث عن حماية الفنانين أو الصحفيين من خلال أجهزة أمنية غير قادرة أصلاً أو في المقام الأول على فرض القانون ".
إن الموسيقيين الذين تمسكوا بالناصرية بحب وبولاء كبيرين ُيغضبهم ويؤلمهم اليوم أفعال المارة الغرباء ، ويقول شاب في أحد الأسواق التجارية الذي لم يكشف عن أسمه إنه سمع مؤخراً عن رجل ذو صوت متميز بشجنه كان يغني لنفسه في مقهى في الناصرية ، " الأمر الذي أرجعني بالذاكرة إلى الأغاني التي كانت أمهاتنا تغنيها في الحقول ".
من الجدير بالذكر إنه لم يتم ذكر الأسماء الحقيقية للأسمر ولبقية المغنين ممن وردت الأشارة لهم في هذه القصة وذلك لغرض حمايتهم.
وسام طاهر - صحفي ُمتدرب في معهد صحافة الحرب والسلام - الناصرية