العودة الى بغداد

بعد مضي عام واحد على مغادرته للعاصمة، يعود المراسل اليها ليجدها عبارة عن مدينة اشباح.

العودة الى بغداد

بعد مضي عام واحد على مغادرته للعاصمة، يعود المراسل اليها ليجدها عبارة عن مدينة اشباح.

Monday, 15 February, 2010
2003. ذهبت الى بغداد كمراسل و كمنسق، وللمرة الاولى التقيت بعرب من كل محافظات البلاد. وككردي من حلبجة، كنت غريبا بالنسبة لهم كما كانوا هم بالنسبة لي.



كان الكل يبحث عن عمل مع الجيش الامريكي، الشركات الاجنبية، او وكالات الانباء. وبدأت دورات تعليم اللغة الانكليزية تفتح في بغداد.



كان الاقتصاد في نمو، واذكر ان الناس كانت تقول" اصبح العراق الولاية الامريكية الحادية والخمسون".



شاركت حلم الكثيرين في ان الديمقراطية قد وصلت الى العراق، واننا بدأنا نسير نحو حياة افضل.



بعد الحرب، ذهبت الى المقابر الجماعية في مدينة الحلة. كانت العوائل تحفر القبور وتعثر على عظام احبائها. كنت حزينا لرؤية ذلك – وفي نفس الوقت كنت فرحا، واقول مع نفسي ستكون هذه هي اخر المقابر الجماعية في العراق، وسيعيش كل فرد في امان الان.



كنت من مؤيدي الحرب بقوة، ولم ترق لي خروج المتظاهرين المناهضين للحرب الى الشوارع في البلدان الاخرى.



لكن بعد ذلك شاهدت بعيني كيف ان الهمرات الامريكية تدوس سيارات الناس في بغداد. وشاهدت بأم عيني كذلك الجنود الامريكان وهم يطلقون النار على عمارة لا يسكنها سوى المدنيون.



كانت الامال التي شاركت بها الكثير من العراقيين قد بدأت تذبل تدريجيا وانا اسافر عبر البلد وارى العنف يتصاعد.



خشيت ان اكون انا ايضا احد ضحايا التمرد المتنامي. تركت بغداد بعد ان جاء بعض الغرباء يسألون عني في العمارة التي اسكنها حيث قاموا بكسر شقتي عدة مرات اثناء غيابي.



وبعد عودتي الى السليمانية، كنت ازور بغداد بين الحين والاخر.



قررت مؤخرا ان اعد تقارير من العاصمة لعدة اسابيع في محاولة مني لفهم الوضع الجديد هناك. وبعد تفجير المرقدين الشيعيين في سامراء في شباط الماضي، كل ماكنت اراه و اسمعه في الاخبار هو تراكم الجثث في شوارع بغداد.



عندما عدت اليها، لم اجدها تلك العاصمة التي تركتها تنبض بالحيوية، كانت شبه مدينة اشباح تجوب شوارعها الميليشيات بحرية والناس تخاف انجاز وقضاء ابسط مهامها اليومية.



قضيت ليلة واحدة في فندق فلسطين الذي كان يوما قد اصبح بيتا للصحفيين. لم يبق منه ما يدل على انه فندق خمس نجوم. بعد المرور في ممر ضيق بين الحواجز الكونكريتية والاسلاك الشائكة ونقطتان للتفتيش، دخلت اخيرا الى الفندق.



اول شيء لاحظته هو الزجاج المتناثر والنوافذ المحطمة التي سببها انفجار سيارتين مفخختين استهدفتا الفندق.



كنت احد نزلاء الفندق مباشرة بعد سقوط نظام صدام حسين. لم تكن هناك غرفة فارغة فيه ولم يكن هناك مكان لركن السيارة فيه، كانت الصالة مكتظة الى درجة انه كان يتحتم عليك استخدام الهاتف لايجاد صديق.



كان الفندق مكتظاً بالصحفيين من كل انحاء العالم وبالجنود الامريكان ورجال الاعمال اما الان فقد كنت انا النزيل الوحيد فيه. استخدمت الانترنت فيه حيث الساعة بدولارين واعطيتهم خمسة دولارات لدفع الفاتورة. لم يكن مع الموظفين ثلاث دولارات ليعيدوها لي.



قال احد الموظفين "لا يأتينا سوى نزيل واحد اسبوعيا، فمن يستخدم الانترنت؟"



كانت الكرادة ذات الاغلبية المسيحية والتي يسكنها الشيعة والسنة ايضا كانت منطقتي القديمة. بعد مضي سنتين على الحرب كانت الاسواق تبقى مفتوحة فيها الى منتصف الليل.



في اول ليلة وصلت فيها بغداد بعد الحرب، زرت الكرادة في المساء ومررت بمحل للاطعمة حيث تناولت الهمبركر. وجدت ذلك المحل مغلقاً الان.



احسست ان الشارع اصبح فارغا في خلال دقيقة من الزمن. اخبروني ان الساعة الثامنة- وهي موعد بدأ منع التجول- بدأت تقترب ، وفي مدينة كبيرة مثل بغداد عليك ان تغلق محلك مبكرا لتضمن الوصول الى البيت في الموعد المحدد.



ذهبت الى المحلين المفضلين عندي والذي اعتدت شراء الفاكهة والخضروات منهما كل يوم. كانا محاطين بعلامات تدل على وجود عمل وانشاءات. اخبرني احد الرجال ان البنايات دُمِرت بسيارة مفخخة كانت تستهدف احد الجوامع الشيعية في الشارع.



لم ارى العوائل مع اطفالهم تأتي الى الكرادة للتسوق في المساء كما كان الامر عليه في السابق. انه لمن المحزن ان ارى تلك المدينة الحية التي قضيت فيها سنتين فارغة ومظلمة الى هذا الحد.



سواق التاكسي الاربعة او الخمسة الذين التقيتهم كانوا شيعة من مدينة الصدر ومن منطقة جسر ديالى. كانوا جميعا من مقاتلي جيش المهدي. كانوا يأتون الى بغداد يوميا للعمل كسواق تاكسي، وفي الليل يحملون السلاح ويجوبون مناطقهم باحتراس لحمايتها.



دعوت احدى الصديقات لتناول العشاء في المنصور احدى اكبر مناطق بغداد ثراءا. كانت سنية مخطوبة لشاب شيعي تعرفت عليه ايام دراستها في الجامعة.



من حينها فسخت عائلة الرجل الخطبة وكانت حجتهم الرئيسية ان عائلة صديقتي سنية وهم شيعة.



الشي الذي يجذب انتباهك في بغداد هو الاعداد الهائلة من الملصقات الجدارية التي بقيت بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في ديسمبر الماضي. على جانبي الجسر، احصيت اكثر من 1000 ملصق لرئيس الوزراء السابق اياد علاوي، العلماني ذو الشعبية الذي فشل في الاحتفاظ بمنصب رئيس الوزراء."رجل المرحلة. رجل المستقبل" عبارة كتبت تحت احدى صوره.



ملصقات احمد الجلبي مهندس حرب ال 2003 والذي لم يحصل على اصوات كثيرة في الانتخابات، كانت كثيرة ايضا. كان يرتدي سترة ثخينة وشال يلفه على رقبته. كان يعد الناس في الملصق"نحن حررنا العراق، وسنبنيه معا".



الاعلانات الاخرى كانت تمجد الجيش العراقي الشجاع. وكانت تؤكد على "لا تقلقوا على العراق، نحن هنا لنحميه".



بعيدا عن الملصقات والاعلانات، فان الحقيقة المرة هي ان الناس تأوي الى بيوتها مبكرا مابعد الظهيرة. معظمهم يعانون من شحة الماء والكهرباء. النساء يلدن في البيوت بسبب منع التجول. عشرات الجثث تكتشف كل يوم. القمامة منتشرة في كل مكان، البنايات على نفس حالها كما كانت في اليوم الاول بعد الحرب.



تضائلت كل امالي الان بعراق حر ديمقراطي.



ارغب الان في شيء واحد: ان ينهي السياسيون العراقيون المنافسات السياسية التي جعلتهم ينسون الشعب الذي صوت لهم. اريد منهم ان يتخلصوا من نفاقهم- في تقبيل احدهم الاخر امام شاشات التلفزيون، بينما يخيرون ميليشياتهم لقتل بعضهم البعض في الشوارع.



اريد كذلك ان ارى عاصمتي التاريخية الجميلة وهي تستعيد عافيتها، والناس في بغداد يتنفسون بسهولة مرة اخرى.



ايوب نوري صحفي عراقي حر ومدرب اذاعي سابق في معهد صحافة الحرب والسلام
Frontline Updates
Support local journalists